IMLebanon

ثروة لبنان الأولى

 

 

في وسط التحديات الحالية الكبيرة، مع الخطاب السياسي المتشنج وضمن خطر الوقوع في حرب شاملة مدمرة، لا بد من أن يتحضر المسؤولون للدفاع العسكري الأمني الذي يمكن أن يفرض علينا. التحضير للصمود لا يكون فقط ماديا، وانما نفسيا واعلاميا وفكريا. هذا لا يمنعنا من التفكير بمستقبل لبنان منذ الآن، اذ أننا لم نستعد بعد مكانتنا الرائدة في العالم وحتى في المنطقة. للبنان ثروة تاريخية كبيرة متجددة. حتما لا أقصد النفط والغاز ليس لأن الموضوع غير واضح حتى اليوم، وانما لأن هذه الثروة المادية حتى لو وجدت وكانت كبيرة فهي لن توازي الثروة الأصلية البشرية الناتجة عن التربية والتعليم والثقافة والتدريب. ثروة لبنان الأولى تبقى البشرية التي ميزتنا محليا ودوليا ليس فقط قبل 1975 وانما بعدها أيضا. الأسماء العديدة الناجحة المنوه بها اقليميا ودوليا معروفة وموزعة على كل القطاعات.

اللبنانيون الناجحون في الخارج يخدمون في نفس الوقت البلد المضيف كما بلد المنشأ وبالتالي فوائد نجاحهم مضاعفة. ركيزة نجاح اللبنانيين كانت المستوى العلمي وخاصة المدرسي، وهذا يقيم دوليا ودوريا عبر مؤسسات مشهود لها بالجدية والعدالة. هنالك برنامج PISA تابع لمنظمة OECD التي تضم كل الدول الصناعية ومركزها باريس. يقيم هذا البرنامج 74 دولة كل 3 سنوات في مستوى كفاءة الشباب في عمر الـ 15 سنة في 3 ميادين هم القراءة، العلوم والرياضيات. لبنان كان يقع في الصدارة منذ زمن، لكن رتبته تدنت مع الوقت بسبب الظروف العامة السلبية المعروفة. في نشرة 2023، كانت مرتبة لبنان 69 على 74 دولة مقيمة وهذه نتيجة لا يمكن أن نفتخر بها ولها تأثيرات كبيرة خاصة على المدى الطويل في الانتاجية والنمو ومستوى المعيشة والتنمية. خسارة هذه الميزة التاريخية للبنان مكلفة لأن الثروات الأخرى هي اما قليلة أو غير مؤكدة ولا يمكن الاتكال عليها. بين الدول العربية، أفضل التقييم هو للامارات في المرتبة 44 والأردن 53 وقطر 56.

المهم هو النظر الى الأعلى أي الى الدول التي أصبحت في الطليعة حيث المرتبة الأولى للصين وثم سنغافورة، استونيا، اليابان وكوريا الجنوبية. 4 من تلك الدول كبيرة ومهمة في كل شيء تقريبا، وبالتالي لا يمكن اعتبارها منافسة لنا. المثال الأهم للبنان هي الدولة الصغيرة التي نجحت جدا تعليميا وهي استونيا. من المنطق مقارنة الدول الصغيرة فيما بينها لأنها تعتمد على موارد محدودة وتدير علاقاتها الدولية والاقليمية بدقة تجنبا للمشاكل مع الدول الكبرى.

 

اذا قارنا استونيا ولبنان في الأقسام الثلاثة، نرى أن الذي يميز استونيا وهي دولة المليون و 400 ألف شخص في مساحة 45 ألف كلم مربع هو التفوق بها كلها. في المعدل العام تحصل استونيا على 525 نقطة مقابل 377 للبنان. في الفروع الثلاثة لسنة 2023، تحصل الدولتان على 523\393 في الرياضيات، 530\384 في العلوم و 523\353 في القراءة. لبنان تدنى خاصة في القراءة حيث مرتبته العالمية هي 71\74 مما يشير الى اهمالها في المدارس والمنازل كما يشير الى الضعف العام في اللغات الأجنبية والعربية. يحتاج لبنان الى تقوية برامج العلوم في كل فروعها والى تحديث كل البرامج ليس فقط في العلوم وانما في الأداب أيضا.

كيف يمكن وصف الاقتصاد الاستوني؟ اقتصاد مفتوح يعتمد على السياحة ويرتكز على التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي المباشر. بعد الخروج من الاتحاد السوفياتي وتحولها الى اقتصاد السوق وثم انضمامها الى الاتحاد الأوروبي، بدأت المؤسسات الوطنية بالازدهار. يتم تدريجيا تحويل الاقتصاد أكثر فأكثر الى التجدد المعتمد على التكنولوجيا. في مؤشر انتاجية العمل أي ناتج العامل الواحد، قيم حديثا ب 72 دولار في استونيا مقابل 89 دولار كمعدل للدول الصناعية. نسبة البطالة هي 5,6% وتعادل معدل الدول الصناعية. أما المدهش فهي نسبة المنازل والشركات المرتبطة عمليا بالأنترنت السريع. في المنازل، النسبة هي 91% مقابل 88% لمعدل الدول الصناعية مما يدل على الوعي وعلى القدرة الشرائية المناسبة للمواطن التي لا يملكها اللبناني. في الشركات، النسبة هي 80% مقابل 78% لمعدل الدول الصناعية مما يشير أيضا الى الوعي لأهمية التكنولوجيا ولكيفية الاستفادة منها في الأعمال. طريق النجاح واضحة في استونيا ومنها الى كل الدول الصغيرة جغرافيا، وهي استعمال شبكات الاتصالات الجديدة والسريعة للنجاح.

 

ليس الهدف بذل كل الجهود لرفع مؤشر لبنان. المهم تطوير التعليم المدرسي وتحديثه والمؤشر يتحسن تدريجيا فيما بعد. مستوى التعليم هو الأساس والمهمة التي تقع على عاتق الطلاب والأهل والمدارس ووزارة التربية صعبة. في لبنان مؤخرا، تأثر المستوى التعليمي سلبا بالأوضاع الاقتصادية المتردية ووضعت تعديلات على البرامج والامتحانات هدفها تسهيل حياة الطالب وليس دعم المستوى التعليمي. ليس سيئا التأقلم مؤقتا مع أوضاع استثنائية لكن ضمن حدود معقولة يحددها تعاون الأطراف الثلاثة أي المعلم والمدرسة والوزارة.

ما يجري في المدرسة مهم ويؤثر على الجامعة، وقد أعطت الدولة اللبنانية على مر الزمن رخصا تعليمية الى عشرات الجامعات ومئات الكليات ولا رقابة جدية على المستوى وتناسب الشهادات والفروع مع أسواق العمل. لا بد من مراجعة هذه السياسة الخاطئة المضرة وطنيا وسحب بعض الرخص. فيما يخص وزارة التربية، لا بد من رفع موازنتها وتخفيف موازنات مؤسسات أقل أهمية، وهذا يتطلب شجاعة سياسية عامة كانت مفقودة ونأمل في أن تحصل مستقبلا. من الضروري أخذ مؤشر PISA جديا ليس للقلق وانما لمحاولة الاصلاح لأن تأثيره على شباب وشابات المستقبل كبير جدا. لبنان دولة صغيرة جغرافيا لكن مع طموحات كبيرة لأفرادها تبدأ منذ الصغر وتتطور في المدرسة لتبني شخصيات ناجحة في كل الميادين.