جمعيات “إنسانية” تقفل وأخرى “إنتخابية” تفتح
هناك “رجال” و”نساء” يهبّون في المحن باسطين الأيدي والقلوب والعقول لنجدة إخوتهم في الإنسانية، وهناك من يهرولون باحثين في قلب السواد عن منافعٍ وأرباحٍ ومكاسب. فإلى أي جهة مالت دفة من هرعوا الى شوارع لبنان في نكباتِهِ التي تكاد لا تنتهي؟ وماذا عن كل الكلام الذي ينتشر في هذه الأيام، في أكثر الأزقة فقراً في بيروت، عن جمعيات ستسدل الستارة عن وجودها وجهودها آخر هذا الشهر؟ ماذا عن قلق اللبنانيين؟ والى متى سيبقى يتّكل لبنان وشعب لبنان العظيم، على كرتونة وشفقة والتفاتة؟
تسكن في حيّ فقير في منطقة الجعيتاوي في بيروت. الحياة “قهرتها” منذ ولادتها فعانت من أمراضٍ ومحن. لكنها عرفت بذكائها كيف توفّر سبل الإستمرار حيّة ولو بحدود دنيا من الغذاء والدواء والبقاء. أتى 17 تشرين. بدأ الدولار يرتفع و”القروش” القليلة بدأت تتلاشى قيمة وجدوى. ودوى انفجار بيروت. كانت على شرفتها فسقطت ارضاً جريحة. وتبعثرت محتويات منزلها المتواضع. ومذاك، منذ أن استفاقت من وقع الصدمة، وبابها يدق يومياً مرات ومرات من جمعيات تنغل تحت سمة: الإنسانية. والبارحة، نزل الخبر عليها كما الصاعقة من إحدى الجمعيات التي رافقتها على أكثر من عشرة أشهر: “سنقفل ابوابنا آخر هذا الشهر. فالتبرعات توقفت ومساعداتنا ستتوقف. نعتذر منكم”.
الجمعيات الإنسانية التي فرّخت كما الفطر بدأت تتوقف. وكراتين الطعام التي اتكل عليها كثير من البيارتة أصبحت شبه نادرة. وحديث الساعة في ذاك الشارع البيروتي المتواضع جداً اصبح: كيف سنأكل؟ ما معناه ان الأزمة ستتضاعف والجمعيات التي نشطت، كبديل عن الدولة، سترفع هي أيضاً “العشرة”. واللبنانيون الذين اكتفوا بكرتونة طعام من هنا ودواء من هناك سيعانون، بعد المرّ، الأمرّين. فماذا يحصل بالفعل على الأرض؟ وماذا تقول الجمعيات التي لا تزال نشطة؟ هل المشكلة في توقف بعض الجمعيات عن العطاء أم في الدولة غير المسؤولة أم في اللبنانيين أنفسهم الذين اصبحوا متكلين مستسلمين تكفيهم لقمة الخبز على حساب الكرامة؟
إنسحاب فعصيان
“ليبان تروك”، الذي انطلق كموقع على “السوشال ميديا” للمقايضة بين اللبنانيين في زمن “التعتير” شكّل ضرورة لكثير من اللبنانيين واللبنانيات. هو موقعٌ يتحرك اليوم من خلال صاحبة الفكرة هلا دحروج على نيل العلم والخبر والتحوّل الى جمعية. هي أطلقته يوم بدأ اللبنانيون يجوعون وبعدما “شفطت” المصارف اموالهم، وسُدّت الآفاق في وجوههم. ومنذ أيام، بينما كانت الطلبات تنزل على “ليبان تروك” مثل “الشتي” اعلنت دحروج خبراً اقلق الكثيرين: “حان وقت الإنسحاب الموقت… فنحن لسنا الدولة وإن كنا نعمل عمل الدولة… نحن وقفنا الى جانب من هو محتاج لكن البلد كله يقف ضدنا: لا بنزين، لا مازوت، لا دواء، لا ضمان… فكيف سنساعد من يطلب؟ كيف نؤمن مساعدات مفقودة؟ كيف نساعد اذا كان ما يفترض ان نساعد به غير موجود؟ لذا فلنعلنه عصياناً مدنياً مدة أسبوعين… فنحن موجوعون مظلومون مثلنا مثلكم”. فهل هذا الكلام معناه إنسحاب؟ هل ستُقدم “ليبان تروك” على ما اقدمت عليه جمعيات أخرى؟
هلا دحروج تجيب “مضى علينا عام ونصف fully active وأصبحنا نقوم بأعمال ليست أعمالنا. والأزمة تزيد ونحن غير قادرين أن نتنفس. صحيح أن نفسنَا طويل لكن ما يحدث في بلدنا يجعل الإنسان ينفجر. لذا قررنا إعلان العصيان الموقت. فالمتطوعون ما عادوا قادرين على تلبية المساعدات بسبب فقدان البنزين. الأدوية أيضاً مفقودة. الأزمات المتفاقمة أرهقتنا في بلاد فُقدت فيها أدنى الحقوق. لذا لا بُدّ من “الصراخ” خصوصاً أننا نرى الناس يتأقلمون مع كل الأزمات التي لا يقبل بها لا عقل ولا ضمير. نحن بلغنا الإنهيار الكامل وما زلنا نتلقى يومياً اكثر من 5000 رسالة من مواطنين يرددون: اولادنا بلا طعام وكبارنا بلا دواء ونحن بلا عمل. فكيف نساعد كل هؤلاء؟ ظلم ظلم ظلم… لذا علينا ان نقف. علينا ان نتوقف لنعلن أن الأمور “مش ماشية”. كل “السيستام” مش ماشي. نحن كمن يُطفئ الحريق بكوب مياه. والطلبات تزيد وتزيد وتزيد. ومن كانوا يساعدون ويتبرعون أصبحوا اليوم يطلبون المساعدة. هناك أكثر من ألف عائلة تتكل علينا ندفع بدلات إيجاراتهم ونؤمن طعامهم وأدويتهم. ما بقا قادرين. وهناك من كنا ندفع فرق الضمان من أجل استشفائهم. فبعدما كان المبلغ خمسة ملايين اصبح خمسين مليوناً. فماذا نفعل من أجلهم؟ حتى جمع المال لهم أصبح محالاً لعدم توافر البنزين. أصبحنا “في الويل” جميعاً”.
ليبان تروك لن تقفل أبوابها لكنها “تصرخ”، فهل من يسمع؟ نشك.
ما رأي جمعيةLebanon of tomorrow؟
مؤسس الجمعية طارق كرم نشيط جداً، يعاونه نحو 250 شاباً وشابة، منذ انطلقت الأزمات وتلاحقت في لبنان. فهل سمع عن جمعيات تريد إقفال أبوابها آخر هذا الشهر؟ يجيب “هذا طبيعي ومتوقع، فبعد إنفجار بيروت “فرّخت” جمعيات كثيرة. وسيكون صعباً جداً على الأهالي الذين ما زالوا تحت وقع الأزمات أن يتعايشوا وحدهم معها. ويستطرد: أصبح صعباً تأمين التبرعات والموارد لسدّ حاجيات من هو محتاج والجمعية التي لا “تخترع” سبل صمودها ومواردها لن تتمكن من الإستمرار. نحن، في “ليبانون تومورو”، قمنا بسلسلة مبادرات مع محال تجارية ومؤسسات من أجل الإلتزام بالمساعدات ونقوم بمبادرات فردية أيضاً لذلك. والحاجات تتعدى بيروت الى كل المناطق لذا نشاطنا ينتشر في كل لبنان. كنا نقدم كرتونة طعام بقيمة محددة، فلنقل بقيمة مئة الف ليرة، لكن قالب الجبنة وحده اليوم اصبح سعره يناهز المئة ألف. الموارد تقل والحاجات تزيد. ونحن تحفظنا منذ البداية على عدد من نساعدهم كي نبقى نساعد العائلات التي تبنينا مساعدتها وذلك من دون show off. نحن نساعد اليوم 1500 عائلة اختارها سفراؤنا المنتشرون في كل لبنان. وأصعب ما يمكن الإلتزام به بالنسبة الى كثير من الجمعيات هو تدقيق الحسابات ( AUDIT). وهو ما ليس موجوداً عند كثير من الجمعيات”.
هناك جمعيات محلية أحدثت فرقاً في الأيام الصعبة وهناك جمعيات “فرخت” وتنوي الإقفال. واللبنانيون، بين هذه وتلك، متكلون. وهذا اخطر ما نشاهده اليوم. اللبنانيون، أو لنقل بعضهم، رأيناهم يقفون في صفوف طويلة في انتظار قنينة زيت. والدولة التي “طمأنها” تأقلم هؤلاء جعلتهم يقفون طوابير أمام محطات الوقود والصيدليات والآتي قد يكون أعظم. هلا دحروج رفعت الصوت مطالبة اللبنانيين بعدم الإتكالية. فالمساعدات إستثناء لا قاعدة. ومن يتأقلم مع الإستثناء سيصعب عليه العصيان على الظلم.
عدس وحمّص
جمعيات تعمل بشرف وجمعيات تعمل بلا شرف. واللبنانيون خاضعون. هناك بيوت بدلت ادواتها المطبخية بحجة حاجتها الى المساعدة الإنسانية. وهناك بيوت بدّلت اثاثها، وتبدو فرحة بالمساعدات التي تأتيها (أو كانت تأتيها) الى قعر الدار. وهناك أصواتٌ تتردد في الأزقة والشوارع بين الجيران: هناك جمعية توزع عدساً وحمصاً وفاصولياء عند المحطة. أجلبوا هويًاتكم وتعالوا. فهل هذا هو لبنان؟ هل هذا هو اللبناني الذي يريدون منحه إبرة مورفين عبارة عن بطاقة تمويلية؟ جمعياتٌ محلية كثيرة استفادت من الهبات التي أتت من الخارج فأعادت توزيع بعضها. أحد بيوت منطقة الأشرفية زارته عشرات الجمعيات وصوّرت غرفه وأفراده وغادرت. إحداهنّ إستقبلت شخصاً إدّعى أنه طبيب. فحصها. صورها. وقال لها أنا من إحد مستشفيات بيروت الكبرى. وإذا احتجتِ لشيء إتصلي بي. أجرت فحص دم مخبري واتصلت بالمستشفى وطلبت الإسم فحولوها الى عيادة الطبيب فقال لها: لا، لست أنا من زارك. ثمة أكاذيب كثيرة يعيشها اللبناني ويدفع ثمنها من كرامته اولاً ومن وجوده وعزة نفسه وراحة باله. اللبناني أصبح مقهوراً. فمتى تستفيق “الدولة” على حالِ شعبٍ أصبح عاجزاً حتى عن العصيان؟
اسماء أسماء مسجلة في أجندات اللبنانيين لجمعياتٍ تتحدث عن “مساعدات إجتماعية وإنسانية” تقدمها. الأسماء تتقارب في الشكل: سند. اساند. مساند. مساندون. رحمة. عطاء. محبة. حياة… إحدى الجمعيات وشعارها “نحب الكل ونساعد الكلّ” أعلنت آسفة: “نعتذر عن تأخرنا في تقديم المساعدات بسبب غلاء الأسعار”. ثمة فوضى في كل شيء في بلد عائم على نار وبارود وبلا أدنى المقومات. ولولا نخوة بعض الشباب والشابات لكانت الأمور أسوأ بكثير. سبع بارودي أحد هؤلاء الشباب الذين يتمتعون بنخوة قلّ نظيرها. هو لا ينام إذا عرف بطفل ينام بلا حليب أو مسن بلا دواء. وهو “ينغل” من خلال جمعية Lebanon of tomorrow لهذه الغاية.
يكاد اللبنانيون يجنون “فالصبر له حدود”. ونحن نقترب من انتخابات قد تحصل وقد لا تحصل هناك من يتحدث عن جمعيات جديدة ستفتح، مقابل الجمعيات التي ستقفل، فهناك من يريد ان يستفيد “إنتخابياً” أيضاً من خلال المساعدات الإنسانية. لكن، هل هكذا سيعيش اللبنانيون الى أمد غير منظور؟ وحده العصيان يبقى السبيل المتاح لتحقيق شيء أو كل شيء وإلا على لبنان واللبنانيين والجمعيات الإنسانية السلام.