أما وقد عبرت الحلقة الأولى من مسلسل «الهدن الإنسانية» في حرب غزة امس، بمعزل عن النجاح بتمديدها من عدمه، فإنّ الايام الاربعة كانت كافية لتقديم اكثر من صورة عمّا شهدته الأيام الـ 50 من المؤشرات إلى ما كان خافياً على العالم. وإلى ما أظهرته من حجم التدمير في موازاة عدد الشهداء والضحايا والجرحى، فإنّ هناك من سعى إلى قراءة نتائجها الأولية تمهيداً لتحديد «المستفيد الأول» منها. وعليه مَن سيكون؟
ليس هناك اي مبالغة في القول انّ عملية «طوفان الأقصى» ومعها «السيوف الحديدية» وما رافقهما من عمليات عسكرية وما قادت إليه من حراك ديبلوماسي دولي واقليمي، وما انتهت اليه من حرب دموية، قدمتا عشرات العناوين الكبرى التي يمكن أن تُطرح على مختلف أنواع واختصاصات مراكز الدراسات الاستراتيجية السياسية والديبلوماسية والإنسانية منها، كما العسكرية، وتلك التي تتناول شكل العلاقات بين الدول ومضمونها. كما انّها تدعو بإلحاح الى ضرورة تقييم الادوار والمهمّات والجدوى من المؤسسات الاقليمية والدولية والأممية، وفي مقدّمها الأمم المتحدة ومجلس الأمن خصوصاً، عدا عن ضرورة البحث في مدى التزام عدد من الدول والحكومات والجيوش بالمواثيق والمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.
وانطلاقاً من هذه الخلفيات المتشعبة على اكثر من مستوى، توقفت مراجع سياسية وديبلوماسة أمام مجموعة من المؤشرات التي توحي أنّ هذه الحرب لن تنتهي بالمساواة بين طرفيها، كما تلك التي سبقتها من مواجهات بين الاسرائيليين والفلسطينيين فرادى او جماعات، بعدما تعدّدت جولات العنف طوال العقود الثلاثة الماضية بينهما. وخصوصاً إن بقيت المراوحة قائمة بين تمديد او تجديد في مسلسل الهدن الانسانية، قبل التوصل الى وقف لإطلاق النار ما زالت التوقعات في شأنه غامضة. وهي على اقتناع شبه ثابت بأنّ احتمالات تأثيرها على الداخل الاسرائيلي ستبقى اقوى بكثير من انعكاساتها على اي جهة أخرى، وخصوصاً الفلسطيني الذي لم يعد لديه ما يخسره قياساً على ما سيصيب الحكومة الاسرائيلية.
وعند دخولها في التفاصيل، تضيف المراجع عينها، انّه وبالإضافة الى الفشل في تنفيذ خطة الترانسفير من القطاع في اتجاه مصر وسيناء، فإنّ ما شهدته ايام الهدن الاربعة أظهرت كثيراً مما كان خافياً على من لا يريد ان يرى، وخصوصاً عندما نضحت بمزيد من الصور والأفلام عن حجم التدمير في القطاعات الحيوية، تزامناً مع إعادة قراءة الارقام الخاصة بعشرات آلاف الشهداء والضحايا والمفقودين والجرحى والمعوقين، والتي كان على اي جيش في العالم ان يتحاشى وقوعها، إن كانت الدول والحكومات التي تمتلكه ملتزمة بأهم المواثيق الدولية والمعاهدات التي تحمي المدنيين والأسرى والجرحى والقطاعات الحيوية الطبية وفرق الإغاثة والإعلاميين والعاملين في المؤسسات الانسانية إبّان الحروب وعلى مسرحها، من دون تجاهل الأخلاقية منها، والتي قد تظهر عند اكتمال جمع الوثائق الخاصة بسرقة جلود واعضاء من جثث الفلسطينيين المسروقة، وهو ما عدّه مسؤولو البنك الاسرائيلي الخاص بها انجازاً.
وإلى هذه الملاحظات، فإنّ ما رافق عمليات تبادل الاسرى شكّل مادة قاسية لمحاكمة الجيش الاسرائيلي وحكومته، قبل ان تتشكّل لجان التحقيق التي دأبت اسرائيل على تشكيلها في نهاية كل حرب، كما حصل في نهاية حرب العام 2006 وما انتهت اليه «لجنة فينوغراد» من تحديد للمسؤوليات، والتي طاولت رؤوساً كبيرة أرفعها كان رئيس حكومة، وعفت عن المسؤولين الآخرين بطريقة متدرجة انتهت الى إعفاء الصغار من مسؤولياتهم.
وفي انتظار التمعن في نتائج اي تحقيقات اسرائيلية او دولية عميقة، يمكن ان تنطلق مما سبق عملية السابع من تشرين الأول الماضي وما رافقها وتلاها، فقد توقفت المراجع امام مجموعة الإخفاقات الاسرائيلية، ومنها تلك التي انتهت اليها اربع جولات من تبادل الأسرى والمخطوفين لدى الجانب الفلسطيني مع المعتقلين في السجون الاسرائيلية، وما تسببت به من خطوات مذهلة. ولعلّ أخطرها عندما لم يتوقع الجانب الاسرائيلي أياً من أماكن احتجاز الاسرى. ولما فوجئ الجميع في اليومين الأولين بانّهم كانوا في جنوب القطاع المحمي من حركة الطيران الاسرائيلي طوال فترة الهدنة، أفرجت الحركة عن الدفعة الثالثة من قلب مدينة غزة، وعلى مسافة مئات الأمتار من المواقع التي بلغتها القوات الغازية.
وإلى هذه الملاحظات، تبين انّ حركة «حماس» كانت قادرة على التحكّم بسير العملية، فأهدت حكومات ودولاً عدداً من مواطنيها الأسرى بلا مقابل. وهو ما انعكس على علاقات اسرائيل بهذه الدول، ولا سيما منها الجانب الاميركي الذي كان قد استعاد مواطنين من حاملي الجنسية المزدوجة قبل الهدنة المعلن عنها. وهي حال التايلانديين والفيليبينيين وأحد الروس والأميركيين الذين أُفرج عنهم في المراحل الثلاث الأولى، بناءً لتدخّل حكوماتهم او بوساطة روسية او قطرية او من اي جهة أخرى التمست مثل هذه الخطوات، بعدما ردّتها لأسباب انسانية. ولذلك فقد شكّل التريث في إطلاق اي من الضباط والعسكريين الاسرائيليين إلى نهاية اي عملية من هذا النوع، نكسة حقيقية لحكومة الحرب ورئيسها، أمام مواطنيهم، ودفعتهم الى التوقف عن الحديث في اقتراح كان قد أُدرج للبحث فيه لإعدام أسرى عملية «طوفان الاقصى» ومن اعتُقلوا في الغزو ومدن الضفة الغربية.
ولما انعكست عملية اطلاق عدد من السجناء المقدسيين وأبناء الضفة الغربية من دون مواطني قطاع غزة، فقد أدّت الإجراءات الاسرائيلية التي سعت الى منع الاحتفال بالإفراج عنهم، الى ردّة فعل دولية سلبية أساءت الى وجه اسرائيل وأمعنت في تقديم وجهها الإجرامي، بما عكسته العمليات العسكرية من همجية دفعت مجتمعات غربية كانت موالية لها إلى التعبير عن رفضها لما حصل… وقد شهدت على ذلك التظاهرات المليونية المتعددة في شوارع لندن وباريس ومدن اميركية مختلفة كما في اسبانيا وبلجيكا وجنوب افريقيا وايرلندا وغيرها من الدول، بعدما اعتبرت ردّات الفعل في العواصم العربية عادية جداً أمام ما شهدته تلك الدول.
وإلى هذه القراءات التي تحتمل كثيراً من التعليقات عند التعمّق في قراءتها، فقد تسبّبت بعض مواقف اسرائيل بنوع من السخرية قياساً على حجم الملاحظات التي طاولت أداءها. ولما رفضت «حماس» التقيّد بمواعيد اطلاق الدفعة الثانية نتيجة الخرق الاسرائيلي المتمثل بعدم نقل المحروقات والمساعدات الى شمال القطاع، خلافاً لما قالت به شروط الهدنة قبل ان يتحقق لها ما ارادت، فقد جاء الاعتراض الاسرائيلي الذي كشفته شبكة «سي.إن.إن» الاميركية نقلًا عن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي جوناثان كونريكوس، الذي اتهم الحركة بالإفراج عن مراهقة وإبقاء والدتها محتجزة، ليثير عاصفة انتقادات واسعة. ذلك انّ الاتفاق لم يلحظ لمّ شمل العائلات إن وجد بين الاسرى اكثر من فرد منها. وهو ما تسلّحت به «حماس» التي برّرت الخطوة بعدم العثور عليها ومكان احتجازها.
وإن شكّلت هذه الملاحظات غيضاً من فيض لما يمكن الاشارة اليه، فلا بدّ للمراجع الديبلوماسية والعسكرية ان تسجّل لحماس تبؤوها مرتبة «المستفيد الأول» من اولى حلقات مسلسل «الهدن الانسانية»، بمعزل عمّا تتضمنه اللائحة كاملة، والتي لن تكتمل قبل انتهاء العمليات العسكرية، لتقوم اخرى على أنقاضها عند التفاهم على شكل قطاع غزة وما سيكون عليه في اليوم الأول الذي يلي إنتهاء هذه الحرب.