انقلب المشهد الغزاوي كلياً منذ صباح امس، عندما واصلت اسرائيل عدوانها على أنحاء مختلفة من قطاع غزة، مستهدفةً مؤسسات صحية وأحياء سكنية كانت في منأى عنها. وهو ما شكّل إشارة الى وقف عرض مسلسل «الهدن الإنسانية» بعد اسبوع على حلقته الاولى. وفي الوقت الذي تعهّد أقطاب رباعية الدوحة السعي لتجديد الهدنة، تعدّدت السيناريوهات التي تحاكي ما هو متوقع في الايام المقبلة، مع احتمال أن تنقلب الصورة مجدداً. وعليه، ما الذي يقود إلى هذه المعادلة؟
لم يكن مستغرباً لدى عدد من الاندية الديبلوماسية والسياسية ان تتجدّد العمليات العسكرية الاسرائيلية في قطاع غزة في اي لحظة، فالحدّ الأدنى مما أرادته إسرائيل من العملية العسكرية منذ انطلاقها في 27 من تشرين الاول الماضي لم يتحقق. وانّ من الفضيحة بمكان ان تقبل «حكومة الحرب» التي صادر صقورها قرارات الحكومة الاسرائيلية بالنتائج التي يمكن التوصل اليها في ظلّ ما انتهت اليه بعض محطات «الهدن الانسانية» التي زادت من تشويه صورة الجيش الاسرائيلي، ليس أمام شعبه المستورد بأكثريته من دول مختلفة فحسب، انما في كل أنحاء العالم وخصوصاً في ظلّ الظروف التي رافقت عمليات تبادل الأسرى والرهائن لدى حركة «حماس» وزميلاتها من جهة والمعتقلين في السجون الاسرائيلية.
ففي إحدى القراءات التي قدّمتها مراجع ديبلوماسية وعسكرية، قيل انّ المراحل الخمس من عمليات التبادل قدّمت اكثر من حدث جلل، يشكّل كل منها مثالاً حياً يندى له الجبين على اكثر من مستوى انساني واخلاقي وامني ـ استخباري، بالنظر الى سلوك «حماس» الانساني مع الرهائن من جهة والحقد الاسرائيلي في التعاطي مع المعتقلين من جهة أخرى. وأنّ ما نقلته القنوات الفضائية مباشرةً على الهواء وفي مجموعة من التقارير الاستقصائية، أسقطت عن هذا الجيش التزامه بأدنى ما قالت به المواثيق والمعاهدات الدولية التي ترعى حقوق المدنيين أثناء الحروب وطريقة التعاطي مع الاسرى والجرحى العسكريين والمدنيين. فبعض ما رافق عمليات إطلاق المعتقلين في السجون الاسرائيلية قدّم صورة استفزت بالإضافة الى أعداء وخصوم اسرائيل مواطني الدول والحكومات التي دعمتها بلا قيد أو شرط مسبق عقب عملية «طوفان الأقصى». وهي العملية التي تركت ندوباً خطيرة في الجسمين السياسي والعسكري الاسرائيليين إلى درجة بات قادة اجهزة مخابراتهما على استعداد للاستقالة او الإقالة وربما المحاكمة، فور أن تضع الحرب اوزارها، الى جانب «المصير الاسود» الذي ينتظره رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو شخصياً.
وقبل الدخول في ما هو متوقع من سيناريوهات متناقضة، رأت المراجع عينها ضرورة العودة الى ما رافق زيارة وزير الخارجية الاميركية انتوني بلينكن لإسرائيل والسلطة الفلسطينية في رام الله، ما يوحي بفشل الديبلوماسية الاميركية في لجم الرؤوس الحامية والسيطرة على ردّات الفعل التي هالها ما تعّرضت لها العملية العسكرية في القطاع. وهي حالة لها ما يبرّرها عند احتساب عدد القتلى من العسكريين كما المستوطنين والجرحى، قبل ان يكشف تقرير استقصائي لم تتمكن أجهزة المخابرات من نفيه، فاعترفت بأنّ عدد القتلى العسكريين زاد على 350 قتيلاً بين ضابط وجندي، ولم تتمكن حتى اليوم من إحصاء القتلى من المستوطنين، بعدما كشفت تقارير مماثلة انّ عدداً كبيراً منهم قُتل برصاص الجيش وليس في خلال العملية التي خاضها مقاتلو «حماس» والمنظمات الاخرى التي انخرطت في المعركة بعد انطلاقها بساعات عدة، بعد الاعتراف أنّ عدد الجرحى زاد على الـ1000 بمئات عدة من بينهم اكثر من 225 مصاباً يعيشون حالات حرجة وخطيرة.
والى هذه التكلفة التي لم تعرفها اسرائيل في تاريخها، فقد ظهر الخلاف الاميركي ـ الاسرائيلي جلياً عندما جمعت المنصّة الاعلامية كلاً من وزير الأمن الاسرائيلي يوآف غالانت والوزير بلينكن، قبل ساعات قليلة من سقوط الهدنة الاخيرة فقال الاول «إنّ العمليات العسكرية ستُستأنف بعد سقوط الهدنة وانّ حرباً سنخوضها لأشهر عدة». فقاطعه بلينكن ليقول: «من قال إنّ أمامكم مهلة اشهر»، نظر الوزير غالانت الى ضيفه من دون اي إشارة ايجابية واكمل حديثه عن الاستعدادات المقبلة وكأنّه لم يسمع بالملاحظة.
عند هذه الدلالات التي تشير الى تفلّت اسرائيل من اي عقال حتى اليوم، فوجىء بلينكن بشروط رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي فّند الشروط التي ينبغي تحقيقها قبل التفكير بإحياء دور السلطة في قطاع غزة بطريقة تبدو انّها اصعب من شروط «حماس» واسرائيل معاً. فقد رفض عباس مباشرة ومن دون مواربة مثل هذه المهمة، قبل أن تنسحب اسرائيل من القطاع. فليس هناك من مسؤول في السلطة يمكن ان يدخل اليه تحت رعاية الدبابات الاسرائيلية التي توغلت في احيائه.
ولذلك ارتفعت نسبة التحدّيات التي على الادارة الاميركية مواجهتها من الزاويتين الاسرائيلية والفلسطينية، الى درجة ليس من السهولة بمكان الوصول الى ما يريده الأميركيون ومعهم اركان الرباعية الاميركية ـ الاسرائيلية ـ المصرية والقطرية التي كانت منعقدة في الدوحة بحثاً مما هو أبعد من مسلسل الهدن التي كانت مضمونة بفعل التفاهم السرّي على تمديدها حتى الاثنين المقبل في الرابع من كانون الجاري، كما كشف وزير العلوم والتكنولوجيا الاسرائيلي أوفير أكونيس الذي سخر من الحديث عن «العقبات امام تمديدها كل يوم او يومين بعدما تمّ التصويت في الحكومة على الموافقة المسبقة الممنوحة الى «حكومة الحرب» بتمديد الهدن حتى ذلك التاريخ من دون العودة إليها».
والى مجموعة الملاحظات المهمّة المتعددة الوجوه السياسية والعسكرية والانسانية، تجدر الاشارة الى انّ التصميم ما زال قائماً بشهادة البيت الأبيض لإحياء مسلسل الهدن الانسانية، وهو الذي أكّد بعد تجدد العمليات العسكرية أمس أنّ «العمل متواصل على تمديد الهدنة الإنسانية في غزة»، لتردّ اسرائيل عبر جريدة «وول ستريت جورنال» التي نقلت عن مسؤولين إسرائيليين انّ «رئيس الحكومة طلب من المخابرات مطاردة قادة «حماس» في عدة دول لقتلهم حيثما وجدوا». وهو امر يزيد من التعقيدات امام ما بلغته المفاوضات الجارية في الدوحة، وليعطي دليلاً ساطعاً على حجم وصعوبة التوافق على اي صيغة تحاكي الانتقال الى تثبيت وقف النار والتمهيد للحل السياسي في ظل انشطار المواقف مما هو مطروح في شأن مستقبل القطاع والتي تسير في خطين متوازيين لا يمكن ان يلتقيا في اي نقطة حتى اليوم.
وبالاستناد الى هذه المعادلة المعقّدة تحتار المراجع الديبلوماسية والعسكرية في الفصل بين مشروعي تمديد الهدن المؤقتة او الاستمرار في جولات العنف المتقطعة في انتظار ما ستحمله الساعات المقبلة من مشاريع تتلاطم بتناقضاتها وسط امل ضئيل في احتمال الانتقال الى مرحلة وقف النار، بعدما حمّل بلينكن ليل أمس المسؤولية لحماس، كما بالنسبة الى سيناريو «فرض الحلول» التي يمكن ان تقود الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني في آن واحد اليها. وهي عملية تحتاج الى معجزة لا يمكن ان ترى النور سوى بتفاهم دولي كبير ما زال تكوينه ينتظر تحقيق حلم ليلة صيف.