طَوت عملية «طوفان الاقصى» ومعها «السيوف الحديدية» شهرها الثاني ودخلت الثالث ولم تتوقف بحور الدم. وكل ذلك يجري بعد انهيار مجموعة «الهدن الإنسانية»، وفشل لقاءات الدوحة الرباعية الديبلوماسية ـ الاستخبارية في الانتقال منها الى الحل المُستدام ورسم صورة الوضع في قطاع غزة وغلافه في اليوم الأول الذي يلي وقفها. وهو ما يطرح السؤال حول قدرة واشنطن على التماهي مع اسرائيل والاطراف الاخرى، وإمكان استعادتها دور الوسيط النزيه، وكيف ومتى؟
قبَيل سقوط الحلقة الرابعة من مجموعة «الهدن الإنسانية» فجر الجمعة في الأول من كانون الأول الجاري، كانت كل الترجيحات تقول انّ المسلسل مستمر على الأقل أربعة أيام إضافية، فقد سبق للحكومة الاسرائيلية ان فوّضت «حكومة الحرب» التصرّف خلالها، وفي مهلة أقصاها الاثنين في الرابع من الشهر الجاري قبل وَقف الاجراءات الاستثنائية التي فرضتها الاتفاقيات الرباعية كما أقرّتها لقاءات الدوحة التي جمعت كلّاً من وزير الخارجية القطرية ورؤساء أجهزة المخابرات الاميركية والمصرية والاسرائيلية المباركة من معظم الاطراف الاخرى تمهيداً لاستئناف العمليات العسكرية في القطاع.
وباعتراف المسؤولين المعنيين الكبار بالمفاوضات، والذين واكبوا مراحلها كافة، انها كانت قد بلغت مرحلة متقدمة ليس لتمديد الهدن فحسب، بل من أجل الحل السياسي. فهي كانت بالنسبة إليهم فسحة لمعالجة القضايا الانسانية التي بلغت مراحل لا يمكن القبول بها في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين خصوصا على مستوى داعمي اسرائيل. فقد تجاوزت المجازر الاسرائيلية ما يتوقعه العقل الانساني واقتربت لائحة الشهداء والضحايا من الـ 18 الفاً، وبلغ عداد المفقودين تحت الأنقاض السبعة آلاف، أمّا عدد الجرحى فقد زاد عن الأربعين ألفاً وفقدَ القطاع الطبي اكثر من 75% من قدراته ومعه الازمة الغذائية باعتراف الهيئة الإنسانية التي شكّلتها الولايات المتحدة الاميركية برئاسة السفير السابق ديفيد ساترفيلد. كما دقّت الهيئات الأممية والامانة العامة للأمم المتحدة جرس الانذار الاخير ما قبل إعلان العجز عن تقديم أبسط الخدمات لمليون ونصف مليون لاجئ فلسطيني في القطاع.
على هذه الخلفيات وفي مواجهة ردات الفعل الشعبية التي غَصّت بها العواصم العالمية رفضاً لما يجري، وعلى وقع مجموعة المذكرات التي رفعها كبار الموظفين في البيت الابيض والخارجية الأميركية الى الرئيس الاميركي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، ومضمون رسالة السفراء الفرنسيين المئة التي رفعت الى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والتظاهرة المليونية في لندن وشبيهاتها في اكثر من دولة اوروبية وغربية وافريقية، حاولت اللقاءات الرباعية في الدوحة ومعها مجموعة القوى التي باركت جهودها من اكثر من طرف من الحلفاء والخصوم صياغة تفاهمات سياسية تُحاكي مستقبل القطاع وغلافه، ليس لسبب سوى انّ أي اتفاق نهائي لوقف النار لم يكن مُمكناً ما لم يتم التفاهم على الخطوات التي تُرضي المهاجم والضحية في آن.
فقد كان واضحاً انّ لكل منهما أهدافه من عملية «طوفان الاقصى» من جهة و»السيوف الحديدية» من جهة اخرى. ومعهما القوى الداعمة سواء تلك التي تدخلت من لبنان واليمن كما في العراق وسوريا تحت شعار «المساندة» او من مواقع اخرى سبق لها ان اصطَفّت الى جانبي الفريقين. وقد ظهر ذلك جلياً عندما استخدمت كل القدرات العسكرية في دعم العملية الاسرائيلية وتبريرها وتلك السياسية والديبلوماسية التي سانَدت الفلسطينيين وحقهم في مطالبهم المتواضعة قياساً على مطالب الجانب الإسرائيلي الذي كان يهدف الى إنهاء حركة «حماس» وتفكيكها وقتل قادتها وتحرير الاسرى والرهائن.
والى تلك اللحظة، تعددت السيناريوهات التي تحاكي مواقف القوى المؤثرة في مجرى العمليات العسكرية بعد مجموعة القمم الثنائية والموسّعة التي عقدت استثنائياً منذ اكثر من شهر ونيف، والتي عجزت حتى اللحظة عن التوصل الى اي اتفاق او صيغة يمكن تطبيقها. وعليه، ما زالت الاسئلة نفسها مطروحة منذ فترة طالما ان لا جواب شافياً يمكن ان يطويها. ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
ـ ما الذي تعنيه المواجهة من شرق المتوسط الى مضيقي هرمز وباب المندب وما بينها في جنوب لبنان وسوريا والعراق؟ وإلى اي مدى يمكن ان تبقى مفتوحة؟
ـ هل من نظرة اميركية جديدة لأزمة الشرق الاوسط والنزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني والعربي وهل انّ بايدن سيضغط في اتجاه «حل الدولتين»؟ وأي مستقبل للسلطة الفلسطينية وعلاقتها بحماس والحضور الايراني؟
وطالما انّ الاجابة عن جزء من هذه الأسئلة صعب ومعقد وغير متوافر حتى اللحظة، فإنّ مراجع ديبلوماسية وسياسية توقفت عند أداء الإدارة الاميركية التي استعادت بسرعة قياسية قدرتها على إدارة دفة المفاوضات والوساطات في زيارة بلينكن المكوكية بين تل أبيب ورام والله والرياض والدوحة وعمان . فبعد ان أعلن بلينكن انه قصد تل ابيب في اليوم الثالث للحرب كـ«يهودي» قبل أن يكون وزيرا للخارجية، استطاع إجراء «التكويعة» التي لا بد منها من بوابة لقاء «مجموعة السبعة» في اليابان عندما أطلق مجموعة «لاءاته المتوازنة» التي رفعها في اتجاه الطرفين الاسرائيلي والحمساوي، فقال على رغم من تبريره للعملية العسكرية الاسرائيلية: لا «لاستمرار الاحتلال الاسرائيلي للقطاع» ولا «لبقاء حماس فيه» ولا «للترانسفير الفلسطيني» في اي اتجاه ولا «لإلغاء اراض فلسطينية في غزة» يمكن ان تضمّ الى اراضي السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بأي شكل من الأشكال.
وامام المعادلة الأميركية الجديدة التي سمحت بإعطاء الوساطة الاميركية زخماً جديداً لا تزال المراجع الديبلوماسية تُشكّك ببعض نياتها، ولكن بفوارق لا يمكن اخفاؤها عند التمعّن بها. وفي اقتناعها انّ العجز في تحقيق ايّ من هذه التعهدات يساوي الفشل من امكان تحقيقها، ذلك انّ النتيجة هي نفسها في الحالتين. فحديث واشنطن عن تفهّمها لقدرة إسرائيل على التمييز بين المدنيين والمسلحين بعد مسلسل الهدن سقط عندما أدّت عملياتها العسكرية في جنوب القطاع وشماله بعد توقف الهدن الانسانية الى مقتل اكثر من 1200 مدني فلسطيني في ثلاثة أيام، في كل من خان يونس والشجاعية ومدن اخرى في وسط القطاع وشماله. وحديثها عن إمكان إعلان حل الدولتين تسقطه اسرائيل يوميا بإعلانها الصريح بأنه لن يكون هناك مثل هذه الدولة الفلسطينية وحجتها انها ستكون «مقاطعة ايرانية».
وإن كانت واشنطن تسابق تل ابيب في خطوتها إنهاء وجود «حماس» فهي لا تناقشها في الآلية الإجرامية المعتمدة، لأنها ترى فيها تعزيزاً لوجودها على حساب القوى الفلسطينية الاخرى ومنها السلطة نفسها التي تريد السلوك السلمي نحو الحل بدلاً من العمل العسكري. وإن توقّف المراقبون أمام برنامج العقوبات الاميركية الجديدة التي طاولت مسؤولين في المستوطنات اليهودية «بحجب التأشيرات عن المستوطنين المتورّطين في أعمال مُخلّة بالأمن والاستقرار في الضفة الغربية»، فإنها رأت فيها محاولة لتجنيب ازمة اسرائيلية داخلية وليس كرمى لعيون الفلسطينيين. فهي تعرف انّ القيادة الحكومية المتطرفة لن تحكم إسرائيل بعد الحرب وستُخلي مواقعها، وإن ذهب نتنياهو ومعه قادة المخابرات الى المحاكم فهم سينتقلون الى صفوف المعارضة. وعندها سيبدأ الامتحان الصعب والإختبار الذي ستخضع له الادارة الاميركية ان كانت جادّة بوقف «الدعم السخي» لإسرائيل، والسعي الى «قيام الدولتين». وتنفيذ تعهداتها بإعمار غزة واعطاء الفلسطينيين شيئاً من حقوقهم تعزيزاً لمرحلة من السلام الدائم في المنطقة او العكس تماماً.