IMLebanon

عنفوانُ فقير وذلُّ مثقف

في إطار أحد البرامج التلفزيونيّة المصريّة، الّتي تعتمد مبدأ «المقالب»، تقدّمت المذيعة باتجاه فقراء مصريين أحدهم طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره وهو بلا ثياب إلّا ما يستر «العورة»، وطلبت منه حديثا مقدَّمةً نفسها ممثّلة لإحدى الفضائيّات «الإسرائيليّة»، فكان جوابه العفوي: «لا أعطي حديثا للعدو». استمرَّت المغرياتُ إلى حدّ إعطائه مبلغا كبيرا يحلم به بعض الأغنياء فكيف بطفل فقير مثله، فكان جوابه واضحا: «لو أعطيتني مال الدنيا لن أعطي حديثا لمحطّة عدوّة». هذا الطفل يمتد حكما من مصر إلى كلّ بلد عربي.

أين نحن من عنفوان هذا الطفل المصري في مقابل قبول من كان رمزا كبيرا لثقافتنا العربيّة أن يجري حديثا مع محطّة صهيونيّة يمهد مضمونُهُ لتطبيع ثقافي تسعى إليه الحركة الصهيونيّة ومن يؤازرها من حُكِّام الغرب، بمن فيهم أولئك المسؤولون عن «فرنكوفونيّة» أمين معلوف ومموّليها الاقتصاديّين ومؤدِّيها السياسيّين.

وخلال الفترة ذاتها، وفي إعلان بعض القادة الرّوحيّين في لبنان والدول العربيّة عن أوّل أيّام رمضان المبارك، حضرت سوريا واليمن والعراق (في مواجهة إيران طبعا) وغابت فلسطين وكأنّها نسيا منسيّا، وفي ذلك حكما انعكاس للموقف السياسي لدول هؤلاء الزعماء الروحيّين والمقصود طبعا السعوديّة وحركتها الوهّابيّة. فبعد وفاة جمال عبد الناصر وقبلها هزيمة الـ67، كان واضحا أنّ البرجوازيّة اتجهت بحركة التحرّر الوطني يمينا وباتّجاه الاستسلام للمشروع الأميركي الصهــيوني، واستكملت تلك البرجوازيّة التابعة للنيوليبراليّة انحرافَهــا باتجاه الخيانة الوطنيّة والتطبيع من «كامب ديفيد» إلى «وادي عربة» إلى «أوسلو» وصولا إلى الخليج وصفقة «الجزيــرتَين» المشبوهة التي وضعت السعوديّة في الإطار «الجيوسياسي» لاتفاقيّة كامب ديفيد.

واليوم أيضا يتقدّم مشروع سايكس – بيكو (2) بسلسلة من الحروب يقودها الخارج على أرض العراق وسوريا، وبغض النظر عن تقييمنا للتدخّلات والمتدخّلين، فإنّ النتيجة هي مزيد من التفتيت والتشرذم وتدمير الكيانات التي رسمها سايكس – بيكو (1). هذه الحروب تخلق اليوم بيئات حاضنة لكلّ من يتطوّع لتبرير التطبيع والخيانة، وللأسف فإن المثقفين هم أخطرهم لأنّهم «الأكثر قدرة على التبرير»… وهذا لا يقلِّل من أهميّة المواقف والخطوات المقاوِمة لهذا الاتّجاه ونجاحها في مواقعَ عدَّةٍ، ولكن حان الوقت ليكون الكلام أكثر صرامة وإلزاما بالتحليل الطبقي لهذه الصراعات… وأعرف أنّه سيكون لهذا الكلام على البعض وقعُ «الخشب».

إنّ ثقافة «المذاهب» وتعبئتها الدينيّة لا يمكن أن تشكّل أساسا متينا لثقافة مقاوِمة شاملة في أبعادها الوطنيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، حتى ولو انتمى من يحمل هذه الثقافة ويمارسها إلى «محور المقاومة»، فهي إلى حدّ كبير ثقافة مرتهنة لقرار البرجوازيّة «الكومبرادوريّة» و «الإقطاع» الديني اللذين يتحكّمان بقرار الأحزاب والدول التي تُمثِّلها والتي بدورها تُلبِّي مصالحها. وحتى التحرير، ببعده الوطني، سيكون غير ناجز مع هذه «المقاومة» وهذا «المحور» برغم التقدير الكبير للتضحيات الّتي قدّماها بهذا الاتّجاه، وتقديرنا يصل إلى حدّ اعتبار شهداء هذه المقاومة وشهداء هذا المحور شهداء لنا…

حان الوقت للخروج من دوّامة «الاستجارة من الرمضاء بالنار»، فمواجهة المشروع الأميركي الصهيوني أو مشروع سايكس – بيكو (2) لا تكون بالعودة إلى أحضان سايكس – بيكو (1) والاحتماء به، خصوصا أنّه أنتج الوضع الحالي بدءا من الشرذمة وصولا إلى اغتصاب فلسطين وسرقة الثورات.

فالفقراء هم أصحاب المصلحة بالتحرير كما التغيير، وعلى الأحزاب المنتمية طبقيّا وفكريّا لهم المبادرة السريعة إلى هذا الاتّجاه… وكما قلنا في لبنان «إلى الشارع در» من أجل التغيير، فنداؤنا لليسار العربي أن يتّجه سريعا إلى مشروع المقاومة الشاملة. فما راكمناه كثير ولكنّه غير كاف… إلى «صخرة» محمّد وخالد مخاترة… در.

(]) الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني