Site icon IMLebanon

“تواضع” زائد

لا مكان في معجم القوى اللبنانية، بمعظمها على الأقل، ولا في سلوكياتها للتواضع الذكي، ونادراً ما تتقن قوة سياسية معنى القوة الناعمة في الظروف الملائمة. آخر نماذج هذه الظاهرة إحياء التيار العوني الذكرى الـ٢٥ لاجتياح الجيش السوري قصر بعبدا. لا يتصل الأمر هنا الا بالمكان ورمزيته حصراً بصرف النظر عن طموح الزعيم العوني الى بلوغ سدة الرئاسة. كان يمكن الجموع الحاشدة ان تجد ضالتها الطبيعية في الاحتشاد لو حصرت المناسبة بالبعد السيادي وحده الذي حوّل العماد عون رمزاً مقاوماً للوصاية السورية آنذاك، وعزلها عن التحولات التي اختطها لسياساته وتحالفاته بعد عودته من المنفى الباريسي. أما اختيار طريق القصر بالذات مكاناً للاحتشاد وسط هذا الاحتدام الهائل بين الماضي والحاضر الذي حيّد معه العامل السوري عن المناسبة، وبالكاد جرى التلميح الى الاجتياح مع شهادات ابناء الشهداء وذويهم، فإن الامر لا يعدو كونه إلاّ خطأ موصوفا. ضجيج التناقض لم يلبث ان تصاعد مع الهجوم على الخصوم واتهامهم بالتبعية للخارج وقت كانت صور فلاديمير بوتين “المنقذ!” ترتفع على أيدي جمهور لم تعرف ثقافته يوما مذاق الصلة بهذا المزاج القيصري. كيف تستوي مهاجمة “الطبقة الكيدية” وتهديدها بالثمن الكبير “لتبعيتها للخارج” فيما الضحية الكبرى (سابقاً) للنظام السوري تنزلق الى رهان عجيب طارئ على النظام إياه وحليفه الروسي؟

لعل أبرز ما يمكن استشرافه في الجانب اللبناني اليوم هو الضياع السياسي امام اجندات الدوليين والإقليميين المتطاحنة في سوريا، وهو ضياع يجعل القوى اللبنانية تعيش أزمة غير مسبوقة في تعاملها مع الرهانات الخارجية. صحيح وأكثر من صحيح ان البلبلة الهائلة الناجمة عن ابتعاد السعودية عن المسرح اللبناني تضع حلفاءها اللبنانيين في موقع شديد الالتباس، بل ان النفوذ السعودي في لبنان برمته يطرح الآن على طاولة التساؤلات البعيدة المدى. ولكن الأصح ايضا ان معسكر الخصوم الآخرين لا يبدو أفضل حالاً أبداً حتى في حالة الحزب العملاق “حزب الله” نفسه الذي يدفع تكراراً بألوف المقاتلين الى ساحات الاستنزاف مع المقلب الروسي الطالع في سوريا. لم يعد واقع القوى اللبنانية يحتمل اي جدل في سقوط حرب الرهانات سقوطاً مبيناً، ولعلها حقيقة لن يعترف بها أحد الآن. تتعولم حرب الدمار في سوريا فيما لا يزال أهل السياسة اللبنانية غارقين في عتيق الذهنيات والحسابات البائدة واتباع أنماط الاستنفار الشعبي التي لم تعد قابلة للتسييل، ما دامت الديموقراطية اللبنانية صارت الضحية الكبرى لهواية التأزيم والتعطيل وسد منافذ الحلول. وطبعا لن يكون هناك اي رهان على الإقرار المتواضع بهذه الحقيقة الا بعد فوات الأوان وبعد دفع الأكلاف الباهظة المعتادة!