Site icon IMLebanon

عن اللبناني الـ”مهضوم”… و”مزاجو مش رايق”

 

نساؤنا “المقيَّدات” أكثر طرافة أحياناً من رجالنا

 

 

اللبناني غاضب، حانق و»سوبِر مزعوج». لا بل هو مؤخراً تربّع على عرش قائمة أكثر الشعوب غضباً. نتيجة طبيعية لظروف غير طبيعية. لكننا، في نفس الوقت، نبقى من أكثر الشعوب التي تتمتع بحسّ الفكاهة وروح الدعابة. السوشيل ميديا و»قفشاتها» تتكلّم وحدها عن ذلك. وهو مسرح آخر تتجلّى عليه «ميزة» التناقضات اللبنانية. لكن دعونا من التناقضات للحظة كما من اللحظات الاستثنائية. فهل اللبناني «مهضوم» أو «تقيل الدم»؟ وهل بين اللبناني واللبنانية من هو أخف ظلّاً؟

 

نخلق «النكتة» من صميم المعاناة. لا بل من تحت تاسع أرض. لكن مهلاً. فهناك بيننا أيضاً من يحسن التجهّم سريع المفعول وفنون «الضرب واللكم» على هواء الحوارات التلفزيونية. مع ذلك، فاللبناني شعب «عيّيش»، كما يُحكى ويقال. وبحثُنا عن سُبل المرح والتسلية لا يتوقّف. يا له فعلاً من مزيج.

 

«بدّا جرأة»؟

 

الفنان الكوميدي شادي مارون يرى في حديث لـ»نداء الوطن» أن اللبناني يحب الحياة والفرح بطبعه، وأن أكبر دليل على ذلك هو الأنشطة والحفلات التي تُقام رغم الأزمات. «طبعاً، يختلف الحسّ الفكاهي لدى الشعوب باختلاف الثقافات، أما داخل المجتمع اللبناني فهناك مزيج من الأذواق بين الشرق والغرب لكنها تصبّ كلّها في خانة واحدة: حب الحياة». فماذا عن المرأة اللبنانية تحديداً؟ إنها تتّجه نحو مزيد من التحرّر في التعبير عن نفسها. أكثر ما يضحكها على المسرح هو المقاطع الذكية التي تحمل إيحاءات (غير) فاضحة. إلّا أن مشاركتها ما زالت محدودة في المسرح الكوميدي مقارنة بالرجل، ربما بسبب فرص العمل الأخرى المتاحة أمامها في الإعلام والتمثيل وغيرهما.

 

من جهته، يصف الممثل والكاتب الكوميدي نعيم حلاوي الشعب اللبناني لنا بالـ»عييش» حتى أنه يستفيد من المصائب لتأليف «النِكَت» على قاعدة «نَكّت عليها تنجلي». أما الجمهور اللبناني بصورة عامة، فيحب المسرح الكوميدي و»نعرف ذلك من خلال تفاعله معنا على المسرح، إلى حدّ أننا نشعر أحياناً وكأنه على وشك أن يستلم المهمة عنا»، كما يشير. أكثر ما يضحكنا هو المواضيع الجريئة والجنسية، تليها تلك السياسية والاجتماعية والمعيشية. أما عن الظهور الخجول للعنصر النسائي في الكوميديا، فيعتبر حلاوي أن بعض المواضيع تتطلب جرأة في التعبير على المسرح لا تمتلكها المرأة الشرقية.

 

إلى مقلب المقالب، وتحديداً «ملك المقالب» كميل أسمر الذي تعرّض أكثر من مرّة لإحراج بسبب مواقف لم «يستهضمها» ضحاياه. فكيف يفسّر التباين في تعاطي الجمهور اللبناني «المهضوم» مع المقالب مقارنة بالخارج؟ «المقالب التي نراها في البرامج الأجنبية – مثل «Just For Laughs Gags» – تعتمد فقط على ردّات الفعل لذا تنتهي بجوّ من المرح والضحك. أما أنا، فقد كنت أوّل من أدخل اللعب على الكلام إلى المقالب، وغالباً ما أختار أشخاصاً «نَفَسهم قصير» وعصبيّين». لكن رغم ذلك، يرى أسمر أن اللبناني هو من أهضم الشعوب. فهو بمجرّد أن يقول «باي» للكاميرا يعني أنه نسي انفعاله وأخذ الأمور بروح رياضية، على عكس بعض شعوب البلدان العربية الأخرى التي تتعاطى مع المقالب ذاتها بعنف، مانعة عرضها ومفتعلة الكثير من المشاكل حيالها.

 

ومن «أخصّائيّي» الضحك إلى علم النفس الاجتماعي. فما هي المعايير التي يُصنَّف على أساسها الشخص الضحوك المرِح؟ أستاذة علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية، الدكتور جنات الخوري، تجيب في حديث لـ»نداء الوطن» بأن «هذا التصنيف يرتبط بالمعايير التي تحدّد سلوك الفرد. وعليه، يتمتع الشخص المزوح أو الفكاهي بالكثير من الميزات وأهمها الذكاء، سرعة البديهة، الصحة النفسية السويّة، التصالح مع الذات وعدم تخطّي المعايير الاجتماعية السائدة في المجتمع أو ضمن الجماعة التي ينتمي إليها».

 

بالنسبة للعوامل التي تؤثّر على مزاج الشعوب، تشير الخوري إلى أن تطوّر الدول هو من تطوّر التقديمات التي تمنحها لشعوبها. لذا، يتمتع سكان الدول التي تنعم بالطمأنينة والأمن والأمان والاندماج وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع المواطنين بالكثير من السلام. فيكون مزاج هؤلاء جيّداً. أما شعوب الدول الرازحة تحت أثقال القلق الدائم والخوف من المستقبل في ظلّ غياب تكافؤ الفرص والضمانات الصحية والاجتماعية، فتميل حتماً إلى التوتّر والعصبية والاضطراب، وبالتالي يكون مزاجها سيّئاً.

ماذا عن اللبناني على وجه الخصوص؟ «لقد كان عبر التاريخ سبّاقاً بين دول الجوار بطبيعته و»فينيقيّته» كما بتميّزه الثقافي وتفوّقه العلمي على شعوب أخرى كثيرة، ما كوّن لديه شخصية تحمل الكثير من الأنا: أنا لبناني؛ أنا متميّز؛ أنا أتكلّم أكثر من لغة؛ أنا مضياف، مرتّب ومذوق…»، كما تجيب الخوري. لكن «أنا» اللبناني لا تقتصر على تلك التي منحها لذاته إنما على «الأنا اللبنانية» التي منحته إياها البلدان المجاورة حين ميّزته بدورها عن غيره من الشعوب. وهو ما جعله يكرّس هذه الأنا إلى أن سيطرت عليه تماماً. من هنا يأتي التناقض في شخصيته. فنراه كريماً، يحب الحياة، أنيقاً ومحترماً، من جهة، ومتعلّقاً بالمظاهر و»شايف حالو»، من جهة أخرى.

 

هل تعلمون، بالمناسبة، من هي أكثر الشعوب خفّة ومرحاً؟ عربياً، وتبعاً للدراسات التي صدرت حتى العام 2022، يتصدّر الشعب المصري القائمة. أما غربياً، فيأتي البريطانيون في الطليعة. «كلما تعاطى الشعب مع الأمور ببساطة، دون أي تكلفة أو صعوبة، كلما كان خفيف الظل. وللمصريين القدرة على تبسيط المسائل مهما كانت كبيرة أو خطيرة، على عكس الشعب الألماني، مثلاً، الذي يستحيل تصنيفه من بين الشعوب خفيفة الظل لما يظهره من جدية وتكلّف في حياته اليومية»، على حدّ قول الخوري.

 

جيّد. لكن الوصول أو البقاء في الطليعة ليس إشارة إيجابية دائماً. فما تفسير احتلال اللبناني «المهضوم» المركز الأول بين الشعوب الأكثر غضباً للعام 2022؟ «مع انطلاق الثورة في العام 2019، تصدّر اللبناني صفحات الصحف العالمية التي كانت ترى في ثورته ثورة من نوع آخر. فلكافة الثورات العالمية طابعُ عنفٍ إلّا تلك اللبنانية التي تعاطى معها الشباب بكثير من المرح، فراحوا يدخّنون النرجيلة ويرقصون على إيقاع الموسيقى ويفترشون الساحات ليلاً». وهذا هو اللبناني الذي يحب الحياة، من وجهة نظر الخوري. لكن التغيير الجذري حصل بعد الثورة واستفحال الأزمة الاقتصادية، إذ انتقلنا من حياة مرفّهة إلى أخرى دون عادية، وأصبح كثيرون بالكاد قادرين على تأمين حاجاتهم الأساسية. وهذا التغيير الجذري أحدث نوعاً من الصدمة ذات التأثير السلبي على حياة المواطن. فتبدّل مزاجه وسيطرت عليه العصبية والخوف كما القلق من سوداوية مستقبله. «لهذه الأسباب أصبح اللبنانيون من الشعوب الأكثر غضباً وعنفاً، بعكس ما كانوا يتميّزون به سابقاً. والدليل على ذلك ارتفاع حالات تعنيف النساء منزلياً، وازدياد نسبة الخلافات على أسباب سخيفة كأفضلية ركن سيارة أو نباح كلب»، كما تضيف الخوري.

 

نساء ورجال

 

بعيداً عن المنطلقات الجندرية وبالإذن من الحركات النسوية – والذكورية – أيهما الأكثر طرافة: المرأة أم الرجل اللبناني؟ سؤال إضافي طرحناه على الخوري. «برأيي يعود الأمر إلى شخصية الفرد، سواء كان أنثى أم ذكراً. أما القيود المجتمعية المرتبطة بالموروثات الثقافية، الدينية والاجتماعية من عادات وتقاليد وغيرها فيمكن أن تشكّل حاجزاً، لا سيما عند المرأة، تمنعها من إظهار ضحكتها وروح الفكاهة لديها». ولا يجب أن ننسى أيضاً أن المرأة اللبنانية ما زالت تعيش في رحاب مجتمع شرقي ذكوري – رغم التظاهر بالانفتاح – يسمح للرجل بالتعبير عن فرحه بشتى الوسائل، من الضحك بصوت عالٍ إلى «التنكيت»، في حين أنه يقوم بالحدّ من تصرفات المرأة وسلوكياتها. لذا يبدو وكأن الرجل اللبناني هو أكثر فكاهية من المرأة في حين أن الدخول إلى مجتمعات المرأة الضيّقة يكشف في أحيان كثيرة أنها أكثر طرافة منه.

الأمر نفسه ينعكس على دخول المرأة عالم الكوميديا والمسرح الفكاهي. فثمة فجوة واضحة بين النساء والرجال هنا. لا نسمع مثلاً عن نظير نسائي عالمي لتشارلي تشابلن وهارولد لويد، وستيفن مارتن وجيم كيري. ولبنانياً وعربياً هناك مقابل ليلى كرم، وهند أبي اللمع، وسامية الجزائري، ونورمان أسعد كلّ من شوشو، وأبو سليم، وفهمان وابراهيم مرعشلي وحسني أفندي، وياسين بقوش، وأبو عنتر وغوّار وعادل إمام واللائحة تطول. فإلام يعود السبب؟ «لا بدّ من الإشارة إلى أن المجتمعات، حتى الغربية منها، كانت لا تزال متشدّدة حتى حقبة ليست ببعيدة وتحكمها ضوابط اجتماعية تحول دون دخول المرأة هذا العالم لا سيما وأن العمل الفكاهي يحتاج الى التعبير بحركات جسدية معيّنة قد لا تمتلك المرأة حرية القيام بها»، تلفت الخوري. ثم هناك النظرة الاجتماعية التي تحكم على المرأة الضحوكة وخفيفة الظل بأنها «خفيفة ومنّا تقيلة»، رغم تمتّعها في أحيان كثيرة بذكاء مميّز وقدرات علمية ومواهب كبيرة. ونظرة الاستهزاء تلك يمكن أن تشكّل عقبة في حياتها الاجتماعية والعلمية والعملية، ما يدفعها لأن تحيّد نفسها عن هذه القيود كي تضمن تقديراً مجتمعياً وعملياً.

 

عود على بدء. يقول المثل: «الإنسان المرح نادراً ما يُصاب بالجنون». ومثل آخر: «صاحب المزاج المرن يكسب كل القلوب». الى ثالث، «تقيل الدم لو حسّ بدمّو طفح الدم من حلْقو». الضحك أصبح يُعتمد كعلاج لاضطرابات ما بعد الصدمة وللتغلّب على القلق والاكتئاب. فما عليك أيها اللبناني «المهضوم» و»الغاضب» سوى بالمزيد منه. أقلّه، كمكمّل علاجي في وجه واقع لبناني «مضحكٍ»… مبكٍ.