ماذا يعني هذا اللغو المتجدّد بـ«الحل السياسي» في سوريا؟ وكيف يمكن لأصحابه (وهم كُثر بالمناسبة) العودة إليه في ظلّ مستجدّات ميدانية جعلته أكثر استحالة عما كان عليه سابقاً؟!
عندما كانت المعارضة تُحكِم سيطرتها وإرادتها على نحو ثمانين في المئة من الجغرافية السورية، وعندما كانت موازين القوى إقليمياً ودولياً، «تميل» إلى دعم عملية تفاوضية في جنيف وسواها، وعندما كان الحُطام هو «الوعد» الوحيد الماثل أمام بقايا السلطة الأسدية، وعندما كان مسارها تنازلياً وميؤوساً منه، وعندما تبيّن أنه لم يعد هناك شيء ينفع في لجم ذلك الانحدار والاندثار، بما فيه السلاح الكيماوي بعد «المرور» على كل أنواع الأسلحة البطّاشة والارتكابات الإجرامية في حق عموم البيئة المعارِضة.. عندما كان ذلك كلّه قائماً قاعداً حاضراً وبيّناً ومنشافاً وواضحاً كعين الشمس، بقيت المنظومة الأسدية المرعية بإرادة «الولي الفقيه» الإيراني وقراره اعتبار المعركة «قضية حياة أو موت» بالنسبة إليه.. بقيت على تعنّتها في حدّه الأقصى. ورفضت الخضوع لأي مسار يمكن أن يُوصل إلى إسدال الستار الأخير على حكمها لسوريا والسوريين.. وظلّت «وفيّة» (ولا تزال) لشعارها الرنّان بأن الأبد هو صنو الأسد! وأن عصبته الفئوية مُسيَّرة وليست مُخيَّرة، و«قدرها» هو: إمّا أن تحكم سوريا وإمّا أن تحرقها! ولا يمكن عاقل أن يُجادل بأن تلك العصبة لم تكن جدّية تماماً في يقينها الإفنائي! ولم توفّر وتعوّف في حسبانها أي شيء يمكن استخدامه لتثبيت ذلك اليقين وتأكيده.
فكيف الحال اليوم وقد انقلبت أحوال الميدان والزمان؟!
سرت في مرحلة ما وخصوصاً بعد انفجار «خلية الأزمة» في صيف العام 2012 ومقتل كبار أقطابها وأهمهم آصف شوكت، ثم في صيف العام 2013 بعد قصف الغوطة بالكيماوي على نطاق واسع وتهديد السيئ الذكر باراك أوباما بمعاقبة العصبة الأسدية على ذلك.. سرت خبريات مفادها أن الأسد «قرّر» الرحيل إلى موسكو! وحزم حقائبه لهذه الغاية الأخيرة! وأن كبار ضبّاطه وأركانه شدّوا الرحال بدورهم باتجاه بيروت وأرسلوا عائلاتهم إليها قبلهم، (وهذا ما حصل بالفعل) كما سرت خبريات أخرى من نوع أن الإيرانيين في إحدى المرات، «أعادوا» زوجة الأسد وأولاده من طريق المطار إلى قصر المهاجرين، وهم الذين كانوا في «الطريق» إلى الانضمام إلى «منفى المهاجرين» السوريين الكثر من وطنهم!.. مثلما سرت بين الفينة والأخرى خبريات موازية تتحدّث عن «ترتيبات» روسية لإتمام عملية سياسية انتقالية (لمَن يتذكّر!) تفضي في ختامها إلى «خروج» الرئيس السابق من آخر قلاعه وادّعاءاته الرئاسية.. لكن ذلك في مجمله لم يُعدّل «الحقائق» الراسخة الذاتية (الأسدية البعثية الفئوية) والمحورية الداعمة المتّصلة بموقفي طهران وموسكو على حدّ سواء برغم التباين «الأخير» بين العاصمتين!
بمعنى، أن المبدأ الذي تستند إليه العصبة الأسدية لدوام بقائها في سدّة القيادة والتحكّم، لم ينكسر بإرادة ذاتية، ولا مرّة واحدة. وهو رَبْطُ المصير الخاص بالمصير العام على طريقة صدّام حسين العراقي وعصبته الفئوية العائلية الحزبية والأمنية! دمار هذه العصبة يعني (وعنى ذلك في كل حال) دمار العراق! ودمار تلك العصبة يعني دمار سوريا بطريقة «أكيدة» و«مضمونة». والدمار في الحالتين والبلدين والبعثين والعائلتين والعصبتين مثلّث الأبعاد ومتّصل: تدمير الماضي في البنى النظامية والدستورية والسياسية والثقافية والاجتماعية، أكانت ملكية وجمهورية في بغداد، أم جمهورية وبرلمانية في دمشق. وتدمير الحاضر من خلال التمسّك بالسلطة بما يعنيه ذلك على صعيد «الدولة» ومؤسساتها وجيشها وقواها الأمنية واجتماعها الأهلي وسيادتها وحدودها.. والتأسيس بذلك لتدمير المستقبل الكياني والوطني العام، بحيث أن البلدَين لن تقوم لهما قائمة في المستقبل المنظور، بل من الصعب مبدئياً الفصل والحسم بمصيرهما كيانياً وجغرافياً وسياسياً!
.. ولم تكن إيران، ومنذ بداية البدايات، معنية بأي كلام عن «حل سياسي» ما! بل هي اشتغلت ولا تزال على خيارَين. الأول هو الدفع باتجاه الحسم العسكري الذي يضمن استثماراتها البعيدة المدى في «القطر الشقيق» ويثبّت الطريق الهلالي الرابط بين طهران وشواطئ المتوسط في بيروت.. والثاني البديل عن فشل الأول، هو الدفع باتجاه تثبيت خرائط القتال وتوزّع جغرافيته وتحويل ذلك إلى حقيقة شبه تامّة، ما يعني (وربما سيعني) تقسيم سوريا فعلياً وواقعياً شرط أن تكون حُصّتها (مثلما هو واضح الآن) ضامنة لوجودها ولترابط قواعدها وعواصم نفوذها برّياً ونظامياً ومذهبياً في كل حال!
.. وحدها روسيا تبدو معنية بحسابات أخرى، أو بالأحرى أشمل من الرؤية الإيرانية – الأسدية بحكم علاقاتها الكبيرة والاستراتيجية بالإسرائيليين من جهة والأتراك من جهة ثانية، كما بكيفية تطوّر تلك العلاقات مع الغربيين عموماً والأميركيين خصوصاً، وهي التي يُقال بأنها لُزِّمت الوضع السوري باعتبارها بديلاً مقبولاً عن خيارَين مرفوضَين. الأول، سيطرة الجماعات «الإسلامية» على الحكم، والثاني، تثبيت النفوذ الإيراني المُحكم والمتحكّم بالسلطة تبعاً للدّمار الذي أصاب تلك السلطة.
وصعب من الآن، الحكم على النيّات الروسيّات! وعلى المآل الأخير لها، تبعاً لكون موقف موسكو شبيه برقّاص الساعة: تارة يميل باتجاه الالتزام بالتفويض الغربي والدفع باتجاه «تسوية» تنسف الخيارَين المرفوضَين، الإسلامي والإيراني، وتارة يميل باتجاه مضاد أقلّه باتجاه النفوذ الإيراني.. والبوصلة الجاذبة لأي من الاتجاهين، هي العلاقات مع الغربيين، صعودها وهبوطها، عقوباتها ومناوراتها، أسرارها وطلاسمها.. إلخ!
ثم بعد ذلك وقبله، وفوقه وتحته، هناك «العامل» الإسرائيلي، و«التفصيل» الخاص بالاحتمالات التصادمية المفتوحة مع الوجود الإيراني في سوريا، المباشر وغير المباشر، والذي قد يقلب عاليها سافلها في لحظة واحدة!
.. «حل سياسي»؟! وأي لغو معيب هذا؟!