في المئة يوم الأولى من رئاسة دونالد ترامب منيَ الرئيس الأميركي بثلاث هزائم:
أولاً: هزيمة داخلية، تمثلت في فشله في 24 آذار الماضي في تمرير قانون جديد للضمان الصحي بدلاً من القانون الذي أقر في عهد الرئيس السابق باراك أوباما. فقد صوّت ضده ليس أعضاء الحزب الديمقراطي المعارض له فقط، ولكن خذله أيضاً اعضاء من الحزب الجمهوري الذي ينتمي هو اليه أيضاً. ويشكل هذا الأمر سابقة في السياسة الأميركية.
ثانياً: هزيمة خارجية، تمثلت في «الأمر الرئاسي» الذي اتخذه لمنع رعايا ست دول اسلامية من دخول الولايات المتحدة. فقد تصدى له القضاء الأميركي على أساس ان مضمون الأمر الرئاسي مخالف للدستور الأميركي. وحتى بعد أن عدّل في الأمر وخفف من وطأته، لم يغير القضاء الأميركي من موقفه المبدئي بالطعن به، وبالتالي بعدم تنفيذه.
ثالثاً: هزيمة داخلية – خارجية معاً، تمثلت في الكشف عن الاتصالات السرية غير الشرعية مع روسيا أثناء الانتخابات الرئاسية وبعدها. فقد أدى الكشف عن هذه الاتصالات التي كان الرئيس ترامب ينفيها جملة وتفصيلاً الى اتهامه بـ«الكذب». وقد نشرت صحيفة الواشنطن بوست تقريراً وثّقت فيه صدور 317 تصريحا خاطئا أو مضللا عن الرئيس ترامب خلال الثلاثة وستين يوماً الأولى من رئاسته. كذلك ادى الكشف عن الاتصالات مع موسكو الى استقالة أعضاء من ادارته الذين تولوا بإسمه إجراء تلك الاتصالات بمن فيهم مستشاره للأمن القومي.
من هنا السؤال: لماذا يتعثر الرئيس ترامب في ادارته للبيت الأبيض؟
كان وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر قد أعدّ دراسة جامعية حول عملية اتخاذ القرار؛ فأجرى مقارنة بين العوامل والمؤثرات التي تفرض ذاتها لدى السياسي، وتلك التي تفرض ذاتها لدى الاداري. وفي تلك الدراسة قال الدكتور كيسنجر (وكان أستاذاً للعلوم السياسية قبل أن يصبح وزيراً للخارجية في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون) ان الاداري يحسب الأمور بدقة. فعنده واحد زائد واحد يساوي اثنين. وهو بالتالي يلتزم بالمنطق الواضح الذي لا يحتاج الى اي تأويل او اجتهاد. أما السياسي فانه قد يجد أن واحداً زائد واحد يساوي خمسة، أو خمسين.. أو انه قد لا يساوي شيئاً. فهو يتجاوز المنطق الواقعي الى ما ورائه، ويعتمد على الرؤيا أكثر مما يعتمد على الواقعية الجامدة.
ليس الرئيس ترامب سياسياً ولا ادارياً. انه رجل أعمال. وهو كما يقول عنه أنصاره وخصومه معاً، يدير شؤون الدولة بعقلية رجل الأعمال حيث يفتقد ما تسميه صحيفة الإيكونوميست البريطانية «فن المساومة السياسية». فهو كمالك لشركاته وكمدير عام لها يتمتع بصلاحية مطلقة في اتخاذ القرار. غير ان الأمر مختلف عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرار السياسي. هنا يفقد السلطة المطلقة. ويصبح مضطراً الى التقيّد بالقوانين وبالضوابط الدستورية.
ولعل التعثر الذي وقع فيه الرئيس ترامب حتى الآن يعود الى انه تصرّف في البيت الابيض في واشنطن كما كان يتصرف وهو في «مبنى ترامب تاور» في نيويورك من حيث كان يدير أعمال شركاته. ولم يفرق بين الصلاحية المطلقة التي كان يتمتع بها لدى اتخاذ القرار وهو في الطابق 25 من بنايته الخاصة.. وبين الضوابط التي يفرضها الدستور في عملية اتخاذ القرار وهو في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض.
ونظراً لأهمية وخطورة القرارات التي يتخذها الرئيس (رئيس اقوى دولة في العالم) فقد كان من الحكمة احاطته، حتى الإغراق، بالمستشارين المتخصصين في مختلف القضايا القانونية والسياسية والعسكرية الخ.. ففي عهد الرئيس الأسبق روزفلت مثلاً، كان عدد المستشارين لديه ستة أشخاص فقط، ارتفع في عهد الرئيس جون كندي الى 196 شخصاً. وواصل ارتفاعه مع تعقد وتداخل العلاقات الدولية بأبعادها السياسية والعسكرية والاقتصادية حتى وصل الى أكثر من 500 مستشار في عهد كل من كلينتون وبوش.
أما الآن فقد ارتفع العدد الى 1212 شخصا. ولكن الرئيس ترامب لم يعيّن من هؤلاء سوى القليل جداً رغم حاجته الماسة الى اختصاصاتهم العلمية التي يفتقر اليها بصفته رجل أعمال! وقد خسر حتى بعض الذين عيّنهم. وكان الرئيس أوباما وهو نفسه رجل قانون قد عين 50 مستشاراً قانونياً في البيت الأبيض خلال فترتي رئاسته. وفوق ذلك يعاني الرئيس ترامب من عدم انسجام العلاقات بين مستشاريه، خاصة بين اثنين من أهم هؤلاء المستشارين وهما صهره جاربد كوشنار، المكلف بملف الشرق الأوسط، وستيف بانون مستشاره للأمن القومي.
ولعل القرار الناجح الأبرز الذي اتخذه الرئيس ترامب حتى الآن، كان قراره قصف مطار الشعيرات في سوريا الذي انطلقت منه عملية اطلاق قنابل الغاز السام على بلدة خان شيخون قرب ادلب. ففي الداخل الأميركي، بعد فشله في تقديم بديل عن قانون اوباما حول الضمان الصحي،فرض بهذا العمل العسكري مقارنة لمصلحته عندما بدا وكأنه يحترم حقوق الانسان ويدافع عنها فيما تعثر اوباما وراء الخط الأحمر الذي كان حذر من تجاوزه.
كذلك نجح من خلال هذه العملية العسكرية المحدودة في توصيل رسالة الى كوريا الشمالية مفادها ان تهديداته لا تقف عند حدود البيانات الكلامية فقط.. ونجح كذلك في توصيل رسالة اخرى حتى الى إيران بانه «عني ما يقول».. وقد قال في ايران «ما لم يقله مالك في الخمر».
في ضوء ذلك يبدو ان قواعد الرهان على قرارات الرئيس الأميركي الجديد تختلف كثيراً عن القواعد التي اعتُمدت مع سابقيه.. وهو ما يحتاج الى دراسته بعناية واهتمام المتعاملون معه من أصحاب القرار في العالم العربي.