IMLebanon

العشا الليلة… رزّ ع طوائف!

 

 

لم تعد برامج الطبخ تعني لنا شيئاً، وكتب الوصفات السريعة في مطابخنا ستكون مناسبة جداً لإشعال النار تحت صاج عالحطب وَرا البيت من أجل شويّة مناقيش زعتر بلدي أو كشك (بلا قاورما أكيد) أو طلامي بسكّر.

 

وطبخاتنا اليومية البلدية المتواضعة التي اشتاقت منذ الآن لقطع لحم الموزات والدجاج، أو حتى إلى وقية لحمة مفرومة خشنة، ستشعر مكوّناتها من لوبية وكوسى وباذنجان وفاصوليا في الأسابيع والأشهر المقبلة إلى وحدة قاسية، وسيقتلها الحنين إلى طعم الزَفَر.

 

أن نشتهي… لم يعد ممكناً أن نشتهي طبخة. أن نشوي… لم يعد للمنقل مكان على بلكوناتنا. أن نشبع… بتنا نفكّر ألف مرّة قبل ملء أطباقنا. أن نأكل… وكم من ولد وبنت وأم وأب ينامون بلا عشاء ويصحون على شربة ماء أصبح سعرها غالياً. أن نتفاءل… ويا ويل العائلات التي تركع وتصلّي من أجل رغيف خبز أو تعانق برميلاً أخضر لتحتضن ذلّ لقمتها.

 

كل هذا سهل، وسهل جداً، طالما أنّ اجتماعات القصر والسرايا والمجلس حريصة على السلم الأهلي وأمان الطوائف. كل هذا سهل طالما أننا ننام قريري الأعين على حقوق طوائفنا التي لا يمكن أن يعبث بأمنها أعداء الخارج وعملاء الداخل، ولا يمكن أن يعكّر صفاء كينونتها لا طابور خامس ولا سادس ولا سابع.

 

كل شيء إنضَرب في هذا البلد، الليرة تتزحلق على قفاها إلى واد قعره مجهول، والاقتصاد بدأ يتحدّث مع نفسه، والاستيراد يلوّح للتصدير من على ظهر سفينة في عرض البحر، والزراعة تمسك بيد الصناعة والتجارة وتَتغندر في وطن الأوغاد المتحكّمين برسن الفقر الراكض صوب الحائط. والسياسة تقصقص البزر على ظهر صندوق الانتخاب وتقهقه من كثرة غباء المشهد.

 

كل مقوّمات الدولة اهترأت، وحتى أنّ السياسيين اهترأوا وانتهت صلاحيتهم ولم تنته صلاحياتهم. ومن يملك الوقت للحديث عن أحلام وآمال وطاقات وأدمغة وتراب الأرز ومرقد العنزة، طالما أنّ أحاديثنا مشغولة بسعر ربطة خبز، وعهر الدولار على شرف الليرة، ومحلّ بيع كيلو الطحين أقلّ بمئة ليرة من غيره، وأين نزرع شتلة البندورة؟ وأين ستبيض دجاجتنا؟ ومن سيحلب عنزتنا؟

 

كنّا نسير نوعاً ما مع البشرية نحو الألفية الثالثة وعصر التطوّر، وفجأة أصبحنا وحيدين نعود للخلف بسرعة قياسية إلى العصر الحجري واكتشاف النار وتطوير الزراعة على شرفات المنازل في الأحياء المكتظّة ببلديات عقيمة. كنّا نتحدّث عن الطاقة الكهرومائية، وطاقة الرياح، والطاقة الخضراء، وفجأة بتنا نبحث عن محلّ يبيع شموعاً بيضاء كنّا قد نسيناها من أيام الحرب، ونفتّش عن «لوكس» الغاز على التتخيتة وعن «شاشته» في جارور مَنسي منذ أعوام.

 

كنّا نحلم… وتوقفنا عن الحلم، لأننا نعيش كابوساً إسمه دولة كلما تقاتَلَ الحكّام فيها على حقوقنا يذبحوننا… وكلّما تقاتلوا على محاربة الفساد يفقروننا… وكلّما تقاتلوا على النظام العلماني يكفّروننا.

 

نحن لسنا خائفين من الجوع أبداً، فغداً ستأتي شاحنات الأمم المتحدّة وبعثات الإغاثة الدولية والعربية بأكياس الرزّ، فسنقف كالأغنام لنأخذها مبتسمين وسنذهب إلى منازلنا نحضّر أشهى الأطباق الطائفية المحمية بحكمة زعمائنا المُبجّلين والمعصومين عن الخطأ. فالماروني يأخذ قليلاً من حقوق المسيحيين ويرشّها على طبق الرزّ، والشيعي يأخذ عنفوان المقاومة وكرامتها ويمزجه مع الرزّ، والسنّي يمسك كمشة من العمق العربي ويغليه مع الرزّ، والدرزي يشمّس طائفته على بلكونات الجبل ليتحلّى بها بعد الرزّ، والطوائف الأخرى ستبتكر أشهى الأطباق لتمتزج مع رائحة الطوائف العابقة من طناجر العيش المشترك وصواني السلم الأهلي وخَزفيات الزعماء الذين اشتروها بدماء الشهداء.

 

ولِمَ نفرّط بطوائفنا، وحقوق طوائفنا، وخطوط تماسها الحمراء ومتاريسها وأسلحتها، بما أننا ضحّينا بالغالي والرخيص من أجلها، ولم يبق لنا غير طوائفنا لنغليها ونشرب مَيّتها؟

 

وقمح…

وطوائف…