لم يترك جنون الدولار الأسود وما يخلفه من آثار على المستويات كافة للبنانيين بصيص أمل ونافذة فرح يطلون بها على الواقع المأسوي الذي نعيشه، وأصبحت تكاليف الخروج من المنزل وممارسة الهوايات تحتاج ميزانية خاصة وراتباً اضافياً.
مع بداية شهر أيلول من كل عام، يستيقظ معظم أهالي البلدات البقاعية على سمفونية أصوات الرصاص الذي يخرج من بنادق الصيد التي امتشقها أصحابها تحضّراً للموسم الذي يستمر حتى أواخر شهر تشرين الثاني، هوايةٌ إعتاد أهالي بعلبك الهرمل على ممارستها، ويقصد المنطقة أيضاً المئات من مختلف المناطق اللبنانية وخصوصاً في نهاية الأسبوع، ينتشرون في السهول وعلى أطراف القرى والبلدات، يلاحقون العصافير والطيور على اختلافها وكأنهم يبحثون عن الكنوز، هي هوايةٌ تسري في دم الكثيرين، أشبه بالوراثة يتناقلها عدد من العائلات البعلبكية، ويتكلف أبناؤها أموالاً باهظة، حتى وصلت الحال بالبعض إلى قضاء الموسم في السهل.
رغم منع الصيد في لبنان يمارس الصيادون هوايتهم، وبعد العشوائية التي كانت تمارس كل عام على مدار السنوات الماضية رغم صدور قانون الصيد البري العام 2004، أصدرت وزارة البيئة العام 2017 قراراً منعت بموجبه الصيد العشوائي وعملت على تنظيم الهواية وفتحت أبواب الموسم واستقبلت طلبات رخص الصيد للصيادين، كذلك عملت في العام التالي، ومع بداية الأزمة التي حلّت بلبنان وثورة السابع عشر من تشرين، انشغلت الدولة اللبنانية في حلّ الأزمات المتراكمة والتي تزايدت بعد أشهر، وصولاً إلى تدني الخدمات الإجتماعية وتزايد الهموم المعيشية للناس وتفكيرها بالخبز وغيره، فانصرفت الوزارة المعنية بالصيد وخلفها المجلس الأعلى للصيد عن تحديد فترة الموسم وفتح باب الرخص، بالتزامن مع تراجع قدرة الكثيرين على ممارسة هوايتهم المفضلة في الاصطياد نظراً لغلاء الخرطوش والبنزين والتكلفة.
على غير عادتها هذا العام، لا تضج المناطق المعروفة بأنها مقصد للصيادين بالسيارات الرباعية الدفع، ولا بتجمع الشبان وبأصوات الخرطوش منذ ساعات الفجر الأولى، فالغلاء وصل الى الموسم، والدولار والبنزين حرما الكثيرين من ممارسة هواية هي أشبه بالمخدر الذي يمشي في أجسامهم، وفيما كان ثمن صندوق الخرطوش 55 دولاراً أيام سعر الصرف بـ 1515 ليرة، أصبح اليوم 80٠ دولاراً ما يعادل راتباً وأكثر لمن يتقاضى مليوناً ونصف ليرة لبنانية، ناهيك عن المشوار الذي يحتاج صفيحة بنزين يصل ثمنها الى سبعمئة ألف ليرة لبنانية، كذلك يقتصر الصيد هذا العام على أبناء المنطقة بعدما كانت تعج بالزوار الذين يعتمد عليهم أصحاب المحال في تحريك الدورة الاقتصادية وينتظرونهم من موسمٍ لآخر.
يقول علي ر. الشاب الأربعيني إنه يمارس الصيد منذ الصغر وتوارثه عن والده، يجتمع ورفاقه كل يوم ويقصدون أماكن محددة في سهل ايعات وعدوس ونحلة ويونين منذ ساعات الصباح الباكر لاصطياد عصفور التين المحبب الى قلبه وقلوب الكثيرين، ويضيف أنه خلال موسم المَطوَق أو الفرّي يستأجرون مكاناً مخصصاً في سهل القاع وهو عبارة عن شاليهات أعدها أحد أبناء المنطقة لهواة الصيد، يحجز كل واحدٍ منهم مكاناً في السهل مقابل بدلٍ مادي، مشيراً إلى أنه ورفاقه لا يستخدمون أساليب الصيد المضرة بالبيئة والطيور كالشبك والدبق، كذلك لا يتصيدون الطيور المهاجرة والجارحة. وحول تغطية تكاليف الموسم يجيب أنه تعلم من والده «دك الخرطوش» وهي عبارة عن تعبئة الخرطوش بالخردق والبارود عبر مكنة خاصة لتوفير بعض المال، خاتماً بأن أحد أصدقائه يعتمد على الصيد وسيلةً للعيش حيث يبيع عصافير التين ويقصده عدد كبير من الناس ومن مختلف المناطق لشرائها.
لا يمكن لمحترفي الصيد التخلي عن هوايتهم مهما كلف الأمر، يعرفون أين يطلقون رصاص بواريدهم ومتى، وفي المقابل لا تزال هناك فئة تتعاطى مع الطيور المهاجرة من باب استعراض القوة والسلاح، حيث تشهد سماء بعض البلدات مسرحاً لمختلف أنواع الأسلحة في هذه الأوقات خلال مرور بعض أسراب الطيور، ويستعرضون على وسائل التواصل الاجتماعي ما جنته أيديهم من مجازر بحق طيور تفيد الطبيعة ولا تؤذي أحداً، وتمرّ في سماء لبنان مرور الكرام.