من دون موعد مسبق ودّع الرئيس حسين الحسيني الحياة. على رغم سنواته الـ 86 لم يكن بينه وبين الغياب موعد. هو الذي تغيّب بقرار ذاتي عن الحياة السياسية اليومية بقي حاضراً في الذاكرة وفي الأحداث بسجلّ حافل لم يستطع أي قرار آخر الغاءه أو تغييبه. دخل الرئيس حسين الحسيني الى عالم السياسة عنوة وخاض غماره بكل ما أوتي من قوة قبل أن يختار الخروج منه الى عالمه الخاص ليبقى حاضراً كشاهد على الكثير من الأحداث والتطورات التي شارك في صنعها بعدما جرت محاولات كثيرة لإخراجه منه عنوة.
قبل أن يحدّثك في السياسة وزواريبها ومماحكاتها وفسادها كان يطيب له أن يحكي مطولاً عن لبنان الرسالة الذي يشبهه بعيداً عن تلك الصورة التي أراد أن يخرج منها وعليها. حسين الحسيني بهذا المعنى هو شهيد آخر للطائف الذي كان شاهداً عليه وعلى ولادته وناشطاً في التحضير له نصّاً وروحاً قبل أن يحصل الإنقلاب عليه وقبل أن يكون هو شخصياً ضحية هذا الإنقلاب كما غيره ممن صنعوا هذا الإتفاق.
مع البابا والمطران
كان حسين الحسيني يريد أن يكون «الطائف» صورة عنه وكان يريد أن يكون هو أيضاً صورة عن «الطائف» وعن لبنان الذي يؤمن به وطناً للرسالة، كما وصفه البابا القديس يوحنا بولس الثاني. ولذلك كان يطيب له الحديث بشغف لا مثيل له عن لقائه مع البابا. كان المطران منجد الهاشم رفيقاً له في لقائه عندما كان لا يزال يعمل في الدوائر الفاتيكانية. كان يحلو للرئيس الحسيني أن يسرد على قداسة البابا قصة هذه «الرسالة» وهذا الوطن من منطلق تجربته الشخصية وسيرته العائلية منطلقاً من عائلته الحسينية الهاشمية التي تتوزّع بين منطقتي جبيل والبقاع والتي انفصلت بين مسيحيين وشيعة. إخوة له بقوا في جبيل ومن بينهم شقيقه النائب مصطفى الحسيني الذي انتخب نائباً عن جبيل في دورة انتخابات 2018 وتوفي في 28 تموز عام 2021 قبل أن يكمل ولايته النيابية. وكان يحلو للرئيس الحسيني أن يقول لقداسة البابا إنّ لبنان هو على هذه الصورة وأن يستشهد أيضاً بأنّ عائلة الهاشم التي ينتمي إليها المطران الهاشم الحاضر معه هي أيضاً عائلته وإنه والمطران «أبناء عم» وهي تنقسم بين مناطق متعددة وبين الشيعة والموارنة والسنّة. وكان يحلو له أيضاً أنّ يتحدث عن لبنان الحقيقي ولبنان الديمقراطي الذي يجب أن يكون على هذه الصورة. كان في استشهاداته هذه يحاول أن يتجاوز مسألة تحطيم هذه الصورة على مذبح الولاءات الطائفية والمذهبية والألاعيب السياسية التي تحاول أن تغيِّر وجه لبنان الحقيقي.
بين كامل الأسعد ونبيه بري
فاجأ الرئيس حسين الحسيني بوفاته اللبنانيين والطاقم السياسي الذي سارع إلى نعيه. فأعلن الرئيس نبيه بري أنه فقد رفيق دربه وأجّل موعد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية من 12 إلى 19 الجاري، وأعلن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الحداد الوطني ثلاثة أيام وقال إنّه فقد أخاً وصديقاً.
دخل الرئيس الحسيني إلى السياسة من خارج النادي السياسي التقليدي عندما فاز في انتخابات العام 1972 النيابية بعدما تعاطى طويلاً الشأن العام من خلال رئاسته لبلدية شمسطار مسقط رأسه. ولكن حضوره بقي في الظل حتى عام 1984 عندما وقع الإختيار عليه ليخلف رئيس مجلس النواب الأسبق كامل الأسعد بعد التحولات الجذرية التي طرأت على عهد الرئيس أمين الجميل الذي فتح خطوط التواصل مع النظام السوري وكان ثمنها تغيير قائد الجيش العماد ابراهيم طنوس وتعيين العماد ميشال عون محله وتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة الرئيس رشيد كرامي وتطيير كامل الأسعد وانتخاب حسين الحسيني رئيساً للمجلس النيابي مكانه ليصبح بذلك الرجل الثاني في الدولة.
رافق الرئيس الحسيني الإندفاعة الشيعية التي أطلقها الإمام موسى الصدر مؤسس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في العام 1968 وحركة «أمل» مع بداية الحرب وكان بمثابة الرجل الثاني المدني إلى جانبه. ولذلك عندما تمّ تغييب الإمام في ليبيا في آخر آب 1978، تمّ اختياره ليكون خلفاً له في رئاسة «الحركة» بينما تولّى الشيخ محمد مهدي شمس الدين إدارة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى كنائب للرئيس. لم تطل تجربة الرئيس الحسيني في رئاسة حركة «أمل». خرج من اللعبة القيادية في العام 1980 ليحل محله المحامي نبيه بري. لم تكن تلك المرة الأخيرة التي يأخذ فيها بري مكان السيّد فكأنه كان يطارده كظله.
بعيداً عن إيران
بين العامين 1978 و1980، وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران يمّم الرئيس الحسيني بصفته رئيساً لحركة «أمل» شطر الجمهورية الإسلامية بينما لم يكن واضحاً بعد الدور الذي يمكن أن تكون لعِبَته هذه الثورة مع الإمام موسى الصدر لا في مسألة تغييبه ولا في مسألة معرفة مصيره لدى النظام الليبي. لم يكن يحلو للرئيس الحسيني الحديث عن تلك اللقاءات التي لم تكن كثيرة ولكنّها في المختصر لم تُفضِ إلى تفاهم مع الثورة التي كانت تريد أن تجعل من «أمل» «حزب الله» وكانت لا تزال في بدايتها تتمسك بأصولية شيعية إسلامية متزمتة بحيث بدا السيد حسين وكأنه غريب عنها في ثقافته ولبنانيته.
أمر آخر كان أيضاً يتجنب الحديث عنه وهو خروجه من حركة «أمل» والظروف التي رافقته وخلافه مع الرئيس نبيه بري. هذا الخلاف الذي تجدد بعدما حل بري محله في رئاسة مجلس النواب في العام 1992 وكأنّه انتظر أيضاً الفرصة السانحة للتخلّص من دوره كمنافس له على الساحة الشيعية. في العام 1984 وصل الرئيس حسين الحسيني إلى رئاسة مجلس النواب بتزكية سورية، وفي العام 1992 تمّ إبعاده عن هذا الموقع بتغطية سورية أيضاً. ولم يكن طبيعياً أن يدفع هذا الثمن بعدما لعب دوراً بارزاً ورئيسياً في التوصل إلى اتفاق «الطائف».
أوراق «الطائف» مع البطريرك صفير
يمكن القول إنّ أجزاء كثيرة من اتفاق «الطائف» كتبت بخط الرئيس حسين الحسيني وعلى أوراقه وفي خلال لقاءاته مع البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير التي تكثفت بعد بدء حرب التحرير. محاضر التعديلات حملها الرئيس الحسيني إلى البطريرك وحصلت عليها تعديلات. ولكنّه لم يكن الوحيد العامل على هذا الخط فقد حاول أن يزاحمه عليه الرئيس رفيق الحريري الذي كان يعتبر أن الحسيني ينقل إلى البطريرك وجهة النظر السورية في التعديلات.
عمل الحسيني في الطائف وكأنّ النائب رينيه معوض هو رئيس الجمهورية. اغتيال الرئيس معوض كان ضربة قاسية للحسيني مهّدت للإنقلاب على «الطائف» فكان هو الضحية الثانية لهذا الإنقلاب بعد معوض، وإن كان اعتبر لاحقاً أنّ المقاطعة المسيحية لانتخابات العام 1992 كانت ضربة قاسية «للطائف». منذ ذلك التاريخ بدا وكأن الحسيني غير منسجم مع الحالة السياسية الجديدة التي رُكِّبت مع عهد الوصاية وبقي غريباً عنها حتى اتَّخَذ القرار بالإستقالة من مجلس النواب في العام 2008. بقي السيد حسين الحسيني خارج المجلس ولكنه بقي حاضراً في السياسة كشاهد على عصر مضى. أكثر ما عوتب عليه أنه احتفظ بمحاضر مناقشات اتفاق «الطائف» ولم يسمح أو يقبل بنشرها حرصا على سريتها وعلى عدم السماح بأن يترك نشرها آثاراً سلبية على الوضع العام.
برحيل الرئيس الحسيني تطوى صفحة من صفحات صورة لبنان التي حاول أن يشبهها وأن يحمل رسالة التبشير بها.