Site icon IMLebanon

أبو علي وإبـن العـمّ

 

 

في عشاءٍ أقامهُ الشيخ أمين الجميل يـوم كان رئيساً للجمهورية، ضـمّ نائب الرئيس السوري عبد الحليم خـدّام، والرئيس حسين الحسيني، «والوزير» نبيـه بـرّي آنذاك، وأنـا.

 

أوّلُ ما التقينا في القصر، بادرني الرئيس الحسيني: كيف الحال يا ابـن العـمّ..؟ فاستغرب عبد الحليم خدام متسائلاً عن الصلـةِ التي تربطني بالرئيس الحسيني إلى حـدّ مناداتي بابـن العمّ، فكان الجواب: إنّ العائلتين ينتميان إلى نسَـبٍ واحد يتفرّع من سلالةِ أهـل البيت.

 

وراح الرئيس الحسيني يـروي أنَّ المطران منجد الهاشم الذي شغل أمانة السـرّ البابوية في الفاتيكان أطلق عليه لفظـةَ إبـن العـمّ، في لقاءٍ لـهُ مع البابا يوحنا بولس الثاني، مستنداً إلى الرابطة العائلية نفسها، فأشادَ البابا بهذه القرابة.

 

لفظةُ إبـن العـمّ، لم تكن بالنسبة إلى الرئيس الحسيني علاقـةً حصريةً بالنسَبِ، بل كان كـلُّ اللبنانيين عنده من أبناء العمومة، وجميع اللبنانيين همْ أهلهُ، مِـنْ أهل البيت الذي هو لبنان.

 

هي الميزة التي يتخلّقُ بها السيّـد متميزاً، حسبُـهُ أنـه ربيبُ الإمام موسى الصدر، ذلك الهالةُ الوطنية السامية الذي احتضن بظلالهِ الوارفة أصالةَ الوحدة الإنسانية في لبنان وهو القائل: «أنا من بلـدِ كلّ الأديان، أنا من لبنان… إذا دعاكم ديـنٌ إلى الإنكماش وعـدم الحوار مع الطوائف الأخرى فارفضوه..»

 

هذه الوصيّة كانت عند الرئيس الحسيني ذخيرةً روحانية فاعتنقها بما يشبه الإيمان، فكان الكلّ في ذاته، وكانت ذاتـه للكلّ، في إطار كينونةٍ وطنية شاملة، لا تحصرُهُ منطقة ولا يحتكرُه ديـن.

 

لم تكن مطرقتهُ الرئاسية تُقرع إلاّ على أنغام الدستور، فكان سلوكهُ مطابقاً لأحكامه، فما انقاد للهوى ولا سلّم بالإنحراف، وأبـى أن تتلطّخ يـدُهُ السياسية بـدمِ، ويـدُه الدستورية بمساوئ جماعة فاسدة، فالدستور عنده إمامُ الحكم على ما يقول الإمام علي: «كأنّهمْ أئمّـةُ الكتاب وليس الكتابُ إمامَهُمْ».

 

مِنْ أجلِّ مآثـرهِ، أنّـه كان عرّاب «الطائف» الذي حسمَ تلك الإشكالية الكيانية التي كان لبنان من ضحاياها منذ ما قبل الإستقلال، فإذا لبنان الطائف: «وطنٌ حـرٌ مستقل لجميع أبنائه عربيّ الهوية والإنتماء…».

 

والطائف الذي كان المخرج الوحيد لإنقاذ لبنان من التفكّك ولهيب آلـةِ الحرب، قد أرسى عقْداً تأسيسيّاً لدولةٍ لا طائفية بموجب المادة 95 من الدستور، وأنشأ جسراً تضامنيّاً واقياً للعبور بين الجمهوريتين.

 

لقد هَـالَ الرئيس الحسيني أنْ يؤدّي عـدم تطبيق الطائف إلى تحوير أهدافه الوطنية، والعودة إلى ما كان من تناحرٍ طائفي ومحاصصات، وانقسام الوطن إلى أوطانٍ كأنَّ كلاَّ منها يحاول اغتيال الآخر.

 

إستقال من النيابة، ورفـع الصوت مندّداً بالهذيان السياسي والتزوير التاريخي وميوعةِ الموقفِ وخفَّـة المسؤولية الوطنية، معتبراً أنّ الإنتخابات النيابية التي تعاكستْ مع بنود الطائف هي انتخابات غير شرعية، وأنّ رئيس الجمهورية الذي يتنكّر للدستور يقـع تحت بنـدِ الخيانة الوطنية، ويجب محاكمته…

 

لعلّ أخطر ما أصاب الرئيس الحسيني في الصميم، أنْ يـرى لبنان الذي شاءَهُ وطنـاً لجميع أبنائه، يكاد يتساقط في مهاوي النهايات، فأغمض عينيه على ذلك اللبنان الذي أحـبّ.

 

يا أبـا علـي.

إنّ الذاكرة التاريخية لا تُختَـمُ بالشمع الأحمر…

 

وإن الإنسان بعد الرحيل لا يصبح بلا ذكرى وكأنّ الناس بلا ذاكرة، سيظلّ يذكرك التاريخ وطنياً رائداً، وسنظلّ نحن نتذكّرك مثالاً لِرجلِ دولةٍ يتجنّدُ في خدمة لبنان ويتـوقُ لبنان إلى أمثاله عملاً بقـول خليل اليازجي:

 

خدمَ البلادَ وليسَ أشرفَ عندَهُ

منْ أنْ يُسمَّى خادماً لبلادهِ.