يتجنّد الرئيس حسين الحسينيّ وفي حمأة النقاش حول قانون جديد للانتخابات لمحاربة القانون 1960، للإضاءة على هذه المساحة المتأرجحة والمترجرجة ما بين مشاريع عديدة تطرح، فتتخبط مفرداتها وعناوينها بمقاييس ومعايير داخليّة بصورة عامّة، فيما هي وبصورة خاصّة تتحرّك من فضاءات خارجيّة مزدحمة بتبدلات في موازين القوى، لتبدو وعلى الرغم من الظهور الدوليّ الداعم للاستقرار في لبنان، متوسّلة المدى اللبنانيّ بمساحته الرجراجة، لتجعل من تلك العناوين قنابل موقوتة تنفجر تباعًا معرقلة مسيرة العهد نحو تكوين دولة حقيقيّة وفاعلة بسطوع الرؤى الخيّرة والمضيئة من جوفها.
يقف الرئيس الحسيني بعقله الثاقب والرصين فوق تلك العناوين وفي لحظة الاحتدام السياسيّ الأقصى، موصّفاً هذا الهزال القائم في أطروحتين أو مشروعين على الأقلّ وهما قانون الستين والقانون المختلط، ومعتبرًا بأنهما متناقضان بالكليّة مع جوهر اتفاق الطائف الميثاقيّ، ممّا يؤدّي إلى تراكم الخلل في البنية الوطنيّة بل في الأصل التكوينيّ لجوهر لبنان.
يعيش الرجل هذا الهاجس الكبير بلا إفراط في التشاؤم ولا مغالاة في التفاؤل. فهو مدرك بأنّ الواقع السياسيّ اللبنانيّ غير منفصل ولا منفصم وبواقعيّة شديدة عن المنطقة باحتدام الصراعات في جوفها وبالتبدلات الآيلة إلى استمرار الأزمة بتعقيداتها، فالواقع اللبنانيّ متّصل بها ومتواصل معها، ومسألة القانون عنوان من العناوين المستهلكة في سبيل تعميق الجراح وتكثيف النزف بغزارة بدلاً من استهلاكه الطيّب في سبيل إعادة التكوين اللبنانيّ إلى متانته وصلابته وتوازنه، فتنطلق الانتخابات النيابيّة باتجاه بناء دولة حقيقيّة بل دولة الحق والقانون، دولة السيادة والدستور، وهذا همّ عاشه ويعيشه الحسيني في السياق السياسيّ والدستوريّ للبنان.
في كتاب بعنوان «قراءة في فكر المطران جورج خضر» تمت كتابته سنة 2008، أرسى الحسيني معادلة ميثاقيّة لبنانيّة تتصل بالحقّ العربيّ المفترض أن يكون مكوّنا من هذا الخواص الأنموذجيّ والجوهر المثاليّ بحسب رأيه ورؤيته. فالمعادلة المُرساة من قبله تصلح بالتحديد لتكون وبالدرجة الأولى منطلقاً عموديّاً وسياقاً عقيديّاً، يضيء بتعابيره على مسألة قانون الانتخابات، كما يصلح في الوقت عينه وبالسياق ذاته لمواجهة القوى التكفيريّة بنظام تشاركيّ جديد، بين المسيحيين والمسلمين باعتدال جليل، بتشديده على أنّ «الحقّ الطائفيّ لا يساوي شيئًا أقلّ من الحقّ الوطنيّ، والحقّ الوطنيّ لا يساوي شيئاً أقلّ من الحقّ القوميّ. والحقّ المسيحيّ أو الحقّ الإسلاميّ هو الحقّ اللبنانيّ، والحقّ اللبنانيّ هو الحقّ العربيّ، ولا لبنان لطائفة واحدة، ولا معنى للعروبة إذا لم تكن تعني الاعتراف بالطوائف وتعايشها وتفاعلها وتكاملها».
يتشبّع دولته من تلك المنطلقات الرؤيويّة في انبثاث واضح لتجلياتها، محاولاً كبح جماح المتصارعين على هذا القانون واستطرادًا على الشعب اللبنانيّ بمحق رأيه، وسحق دوره كمصدر للسطات، ويتماهى كلّ ذلك باستغلال مقيت للقمة عيشه وحقّه الإنسانيّ في التعليم والطبابة والعمل وإبداء الرأي، فتتفشّى أهواء المتصارعين ومصالحهم للقبض على السلطة السياسيّة، والاستقرار على آرائكها، وتقاسم مواردها، بهدر منظّم ومشرّع أحياناً. وحتى يتلاشى ذلك وتبطل سلوكياته وأدبياته بإطلاقيتها، أيّد الرئيس الحسيني في هذه القراءة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون في مواجهته لقانون 1960 والذي وعلى ما تفضّل دولته تنصّل منه الرئيس فؤاد شهاب فيما بعد وهو مؤسّسه. ميزة رئيس الجمهوريّة برأيه أنّه أجهض مقوّماته وفلسفته المبيحة للخلل في النطاق اللبنانيّ وأعاد الاعتبار بعمليّة الإجهاض إلى سيادة الطائف الميثاقيّة مبطلاً مفاعيل السيادة الآحاديّة والشخصانيّة بالتحريف الخاطئ له بالتجسيد والممارسة، والتحريف تمّ بمجموعة انقلابات كبرى عليه منذ التسعينيّات إلى الآن.
ينطلق الرئيس الحسينيّ في رفضه لقانون الستين من مسلّمة جوهريّة معتبراً بأنّه قانون قائم بجملته وكليّته على النظام الأكثريّ الإقصائيّ والإلغائيّ، وفي الممارسة التي حدثت وتجسّدت على الأرض، لقد عزّز قانون الستين طائفيّات سياسيّة أخرى بإقصائه المكوّن المسيحيّ وعزله له واستتباع قراره بمكوّنات ومذاهب أخرى، وهذا ما شكّل طعنة عجماء للميثاق الوطنيّ. فقانون الستين إلغائيّ وإقصائيّ للمسيحيين كما أفصح الرئيس الحسيني بصورة مباشرة، ورفضه من قبل رئيس الجمهوريّة ومعظم الأطراف واجب وطنيّ وأخلاقيّ وسياسيّ.
وفي البحث الدؤوب الذي يمارسه «والد الطائف» عن البدائل الموضوعيّة والجوهريّة لهذا القانون، عاد دولته إلى المداولات التأسيسيّة لاتفاق الطائف بدءاً من الوثيقة الوطنيّة الموقّعة من المغفور لهما الرئيسان كميل شمعون ورشيد كرامي، وصولاً إلى الورقة المقدّمة من قبل اللجنة الثلاثيّة العربيّة، ليؤكّد بأنّ مجموع ما تقدّم عزّز موقع الميثاق الوطنيّ الذي غدا فيما بعد نهجًا ووهجًا في متن الوثيقة ووجهاً كريماً للبنان، وبالتالي، فإن اتفاق الطائف المكوّن من مجموعة وثائق اعتمدت كمصادر لانبثاقه وانبثاثه لم يحدّد طبيعة القانون بل طالب بإجراء الانتخابات على أساس المحافظة. واعتماد النسبيّة في إقرار قانون الانتخابات برأيه يحافظ بالضرورة على الميثاقية كحالة كيانيّة تخصّ لبنان وكينونته، فتنوجد الواحدة بالأخرى وتتلازم معها حتى التوحّد.
إنطلاقاً من تلك الرؤية يقارب الرئيس الحسيني تشبّث النائب وليد جنبلاط بقانون الستين بقراءة هادئة وفي الوقت نفسه رافضة لمبدأ التشبّث، فيتساءل عن أسباب تنامي الكلام عن الهواجس الدرزيّة فيتمّ إبراز الخصوصيّة الدرزيّة بحلّة نافرة، وكأنّ لبنان لا يزال يقوم على خصوصيات نافرة وليس على خصوصيّات متجانسة إسقاطاً لما كتبه عن الحق الوطنيّ والحقّ العربيّ. وبرأيه إنّ الطوائف في لبنان لا تتجانس بتراثتها وخصوصياتها وطقوسها إلاّ إذا تم اعتماد النسبيّة مع الدوائر الموسّعة يضاف إليها الصوت التفضيليّ، فهذا من شأنه أن يريح لبنان ويقيمه في السلام والرضى، ويمنع تسرّب وتسلّل الصراعات من الخارج إلى الداخل، وترسّبها كحالة دائمة في بنيته، كما يمنع الطوائف من قمع بعضها لبعض أو عزل بعضها لبعض، وقد دلّت التجربة اللبنانيّة بأن الحروب، وبحسب رأيه، انطلقت من ثقافة القمع والعزل، وتحوّلت فيما بعد إلى حروب من أجل الآخرين كما قال صديقه المغفور له غسان تويني، وقادت لبنان إلى التمزّق واللبنانيين إلى الموت. ويؤكّد دولته بأنّ التجانس والتأليف الحسن بين الطوائف بواسطة النسبيّة من شأنه أن يقود اللبنانيين إلى أحلاف وطنيّة متجدّدة، ويساهم بمشاركة نخب جديدة وراقية في الحياة السياسيّة. وبالعودة إلى المسألة الدرزيّة المثارة فإنه ليرى ضرورة إثارتها إذا ما ترسّخت تلك الرؤى العقلانيّة والشروط الموضوعيّة بأبعادها وآفاقها في قلب النقاش وأمست مداميك رخانيّة للإقرار والقرار، وبرأيه، لقد اكتوى اللبنانيون من الخصوصيات النافرة والعازلة لبعضها البعض بحسب ما قال والتي أدخلت لبنان أتون حروب تفشّت في جسده، وأكلت من لحمه وشربت من دمه، فالمرحلة وكما يراها، مغايرة لما كان سائداً، فالمنطقة أمام حالة تأسيسيّة وتسوويّة، والسباق محموم بين استمرار الحرب على الإرهاب والاتجاه نحو المفاوضات ومنها استكمال مفاوضات جنيف، فمن الضروريّ أن يدرك اللبنانيون بأن مصلحتهم تتجلّى بالمحافظة على الاستقرار وديمومته، وهذا لا يصح من زاوية إمساك القوى الخارجيّة بنظام الاستقرار الأمنيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، بل يصبح أكثر منعة وقوّة وكمالاً حين يتحوّل الإمساك إلى تماسك متين ورصين، وهذا ما يجعل منه أمثولة فريدة وراقية في مدى المشرق العربيّ ورسالة حضاريّة منيرة للعالم.
وبرأيه إن تلك الرسالة لا تكتنه إلاّ إذا اعتمدت النسبيّة، فلا يمكن للقانون المختلط حتى لو تمتّع بصفة التاهيل أن يكون البديل، فكيف يتم التجانس بين نائب انتخب على أساس الأكثريّ، وآخر على أساس النسبيّ؟ وبالنسبة إليه إنّ التأهيل بالأكثريّ يعدّ إنتاجاً واستمراراً للطبقة السياسيّة عينها وهي المساهمة بالفساد السياسيّ والماليّ، فيتسلل المتأهّلون بالنسبيّة إلى السلطة التشريعيّة والتنفيذيّة جاعلين من الدولة مزرعة لتقاسم الحصص والمغانم والأسلاب وهذا حتمًا ما يرفضه رئيس الجمهوريّة بعزم وقوّة كما رأى دولته.
إنّ الحلّ الوحيد في النهاية ينطلق من قانون جوهره النسبية مع دوائر موسّعة وبإمكان اعتماد المحافظات اللبنانيّة دوائر موسّعة أو حتى أيّ قانون جوهره النسبيّة، ما عدا المختلط، تم تقديمه مؤخّراً شرط أن يراعي الصوت التفضيليّ.
همّ الرئيس حسين الحسيني لبنانيّ بامتياز، والبحث عن لبنان غوص في المثال اللبنانيّ الميثاقيّ، فلا معنى لهذا المثال بلا هذا الجوهر بالذات «ولا معنى للعروبة إذا لم تكن دافعًا إلى إحياء التجربة اللبنانيّة وتجديدها والحفاظ عليها، ولا معنى للعروبة إذا انعدم المثال اللبنانيّ». المثال اللبنانيّ في بحثه المتصل بعمق تجربته وممارسته المنزّهة عن كل إثم وعيب، هو الهدف والرجاء والمبتغى من أجل بقاء لبنان ومستقبله الزاهر رسالة للعرب والعالم أجمعين.