ليس ثمّة، للتقريب في العمق، بين السنّة والشيعة، ما هو أثمن وأثرى من التراث الحافل للزيديّة عبر تاريخها المتعرّج والطويل، من جنوب العراق الى ضفاف بحر قزوين الى الهضبة اليمنية، اذ يكفي هذا التراث ما شهده من تيارات فكرية وفقهية اجتهدت وغرفت من معين أهل الحديث حيناً، ومن كلام المعتزلة حيناً آخر. وهذا لا يتناقض – بل يتفاعل – مع ما شهده التراث الزيدي من قطبية داخله بين أهل الغلوّ، كالجارودية، وبين أهل الاعتدال والاعتزال. ويكفي الزيديّة أساساً، أنّ وجودها الدينيّ والحضاريّ، وارتباطها منذ قرون مديدة بتاريخ الهضبة اليمنية، استمر يحول دون استسهال قسمة المسلمين بين منظومتين مختلفتين، التشيّع والتسنّن، فكانت الزيدية تجسّر بينهما، انطلاقاً من أرضية التشيّع نفسه، تماماً مثلما نجد الإباضية، في المقلب الآخر تحول دون حصر التعددية الاسلامية في ثنائية سنية شيعية مطلقة، انطلاقاً من تمثيلها الطرف الثالث.
تاريخ الفرق والمذاهب في الإسلام عمره من عمر الحضارة الاسلامية، لكنه لا يقرأ أبداً من زاوية ثنائية استقطابية شاملة تجتاز به كل الدهور. الحيوية الزيدية عبر هذا التاريخ ظلّت تثبت ذلك.
في القرن السادس عشر الميلادي ومع تكريس الطابع السني للسلطنة العثمانية يقابله اعتناق الدولة الصفوية للتشيع الاثني عشري انكفأت هذه التعددية الى حد كبير، وكان مصير أغلب زيدية بحر قزوين وايران هجر خصوصيتهم الاعتقادية والفقهية والاندماج في الكلّ الشيعي الإمامي، وبشروط النهضة الصفوية. قبل ذلك، ورغم التباعد الجغرافي، ظلّت الزيدية اليمنية على تواصل وتفاعل مع أختها القزوينية.
واجهت الزيدية اليمنية بعد ان صارت وحيدة، ضغوطاً شتى من داخلها وخارجها، ومن أرضيتها انبعثت الشوكانية في القرن الثامن عشر كرافد من روافد الاحياء السلفي السني الحديث، في مقابل من يتمسك بـ«مذهب أهل البيت»، لكن وفقاً للترسيم الخاص بأئمة اليمن .
لم يكن انحسار رقعة اليمن بالوقائع الحربية، ولا ظهور كيانين، ولا القسمة المذهبية، ولا الصراع بين الملكيين والجمهوريين والتدخل الناصري، ولا صعود الموجة الاخوانية بين شافعية اليمن، دون فرض موجات متلاحقة من التحديات على الزيدية. لكن الحوثية، جاءت تقترح على الزيديين حلاً واحداً لكل هذه التحديات: بعث «الجارودية»، وهي النزعة المتوتّرة تجاه الآخر السنّي والمنقّصة للسرديات الجامعة، وتزكية النعرة «القحطانية» بين عرب جنوب الجزيرة ضد عرب شمالها، انما هذه المرة بالربط مع «الشعوبية» الايرانية (في ماضي الزيدية اليمنية كان يراد بالنزعة «القحطانية» أمر آخر تماماً، وهو الرفع من شأن قضاة المذهب «القحطانيين» بازاء الأئمة من سلالة أهل البيت القرشيين «العدنانيين»).
بيد أن اقتباس شعارات ايران و«حزب الله» لن يجعل من الحوثيين جماعة مندمجة تماماً بالايديولوجيا الخمينية، بل هي تبقى في نظر هذه الايديولوجيا وحرّاسها «جماعة هجينة متحوّلة». فالجماعة تحيط بدر الدين الحوثي نفسه بالهالة المهدوية، وتصفه أدبياتها بأنه خرج على «نظام علي عبد الله صالح لخروج صالح على ثوابت أهل البيت». واذا شئنا مقارنة، فتوزيع الأدوار، بين «المهدي» حسين بدر الدين الحوثي وبين «المحتسب» والده بدر الدين، يذكرنا بتوزيع الأدوار بين «المحتسب» جهيمان العتيبي وبين «المهدي»، صهره، في حادثة الحرم، اواخر العام تسعة وسبعين.
«أنصار الله» لم يتحولوا بعد الى «حزب الله» كامل الاتساق مع النموذج الايراني اذاً، لكن، وبدل أن تكون الزيدية مصدراً ملهماً للتقريب والوصل بين السنّة والشيعة، لا تجد الحوثية ما تقترحه لاحياء الزيدية سوى التصادم مع الآخر المذهبي، وفرض معادلته على بلد شماله الأعلى زيدي لكن وسطه وجنوبه شافعيان، كما أكثرية سكانه.
بهذا المعنى، تمثّل «الحوثية» حالة تلاعب ايديولوجي مسلّح بتراث زيديي اليمن، وتوظيفه لمصلحة سردية التصادم المذهبي الاقليمي. ايران هي العرابة الاقليمية لهذه الجماعة ولاستيلائها على صنعاء، لكن العراب المحلي هم مفاتيح النظام القديم المطيحة بـ«ربيع يمني» فخّخه «الأخوان» (التجمع اليمني للاصلاح) ثم أتت عليه ارتدادات الحملة الشاملة ضد الاخوان في المنطقة.
الحوثية مخلوق ايديولوجي هجين مقاتل، لكنه يتحرّك في فضاء انقسام مذهبي من لحم ودم، انقسام كانت الزيدية خير من يداويه، ويستثمره بشكل خلاق، فصارت الحوثية نموذج «التلاعب الفظّ» بالبصمات الوراثية، وهي ليست لوحدها في هذا، فالشرق العربي يعجّ بحركات «التصرّف الكيفيّ» بالموروثات، تذخيراً للحروب الأهلية.