IMLebanon

«تهجين» لإرث عاصم سلام: ترميم «القاعة الزجاجية» أم تخريبها؟

   

أعمال «الترميم» مستمرّة في القاعة الزجاجية في مبنى وزارتي السياحة والإعلام في شارع الحمرا، رغم رأي المعترضين من أهل الاختصاص. القاعة التي بُنيت وفق رؤية وفلسفة هندسية خاصة لمصممها المعمار الراحل عاصم سلام، تتعرّض لعملية «تهجين» يصفها معماريّون بأنها «كارثيّة» و«تخريبيّة» لإحدى التحف المعماريّة في بيروت، ولمبنى عام لا يمكن التدخّل فيه وتغيير وجهة استعماله أو تقسيمه أو تغيير تصميمه أو حتى اسمه، لأنّه ملك للناس وذاكرتهم الجمعيّة

 

على مدخل شارع الحمرا، تطلّ القاعة الزجاجية، على الرصيف العريض والمارّة، من الطبقة الأرضية لمبنى وزارتي السياحة والإعلام. الصالة الشفافة والواسعة تنفتح، كما أرادها مصمّمها المعمار عاصم سلام (1924 – 2012)، على الشارع التجاري، في علاقة تشاركيّة تفاعليّة، مغريةً المارّة من خلف زجاجها الشفّاف، بجميع طبقاتهم ومشاربهم الثقافية، بزيارة المعارض الفنية والثقافية (ومعرض الكتاب قبل انتقاله الى بيال) التي كانت تستضيفها. كان هذا قبل بدء أعمال الترميم الأخيرة التي قطّعت أوصال القاعة، وأضافت إليها قناطر وأعمدة أفقدتها قيمتها المعمارية كتصميم يستند إلى رؤية واضحة لدى سلام إلى العمارة ووظيفتها وإلى الأبنية العامة.

حتى الآن، شملت أعمال «التأهيل» تقطيع الصالة إلى ثلاثة أجزاء غير متساوية عبر إنشاء جدارين وسطيّين بما أفقدها أهميّتها كقاعة كبيرة مفتوحة ومتعدّدة الاستعمالات، لتنقسم إلى مكاتب وصالة عرض. الجداران شُيّدا كقناطر في تشويه واضح لا يمتّ بصلة لتصميم سلام. فيما خُفض السقف المرتفع وجرى «ترقيعه» بديكور من الجفصين بشكل نصف دائري. الأسوأ من ذلك، بحسب معماريين متخصصين، هو التشويه الذي لحق بواجهة القاعة عبر صبّ أربعة أعمدة ضخمة من الجهة الخارجية، على الرصيف العام، مختلفة شكلاً وحجماً عن الأعمدة «الأصلية»، و«إلصاقها» لصقاً بالمبنى. كما نُزعت الواجهة الحجرية التي كانت تميّز جدرانها الخارجية، وربما يجري لاحقاً تلبيسها بالحجر «التراثي»، بمفهوم المرمّمين، لتتماهى مع القناطر الدَخيلة التي قسمتها. هكذا يكتمل تحوّل صالة بعمارة حديثة إلى صالة «تراثيّة» بالمفهوم السائد. وهو مفهوم يحصر التراث بالقنطرة وجدران العَقد وتلبيس الحجر، ويحصر في خانة الأبنية التراثية كلّ ما نتج من الحقبات التاريخية، غافلاً عن تراث من نوع آخر، يُفترض حمايته، يعود الى فترة الحداثة التي صنعها وواكبها في لبنان مهندسون طليعيّون أمثال عاصم سلام.

 

كارثة معمارية

«الطريقة التي تنفّذ فيها أعمال الترميم كارثيّة». هكذا يختصر مدير المركز العربي للعمارة المعمار جورج عربيد ما يجري في القاعة الزجاجية، معتبراً أنها «مسخٌ للتراث. إذ لا مجال لتقليد التراث في مبنى يرمز الى الحداثة». ويضيف إن أعمال الترميم تنطوي على «سوء فهم للتراث الحديث الذي تميّز به لبنان وعاصمته بيروت في الخمسينيات والستينيات». ولأن هناك حالات عديدة جاء فيها الترميم على حساب التصميم الأساسي، هناك ضرورة، بحسب عربيد، لـ«إنشاء مديريّة للعمارة في وزارة الثقافة تكون مسؤولة عن المباني العامة وترميمها، ومنها الوزارات ذات البناء المميّز والإدارات العامة مثل مبنى وزارة السياحة وشركة كهرباء لبنان وسواهما».

تتعدّد الأمثلة على سوء الترميم. منها ترميم «بيت المحترف اللبناني» في عين المريسة الذي صمّمه المعمار بيار نعمة (جرى ترميمه في اتفاقية بين شركة «كابيتال رستورانت» ورئيس مجلس إدارتها بشارة نمور ووزارة الشؤون الاجتماعية في عهد محافط بيروت السابق نقولا سابا). قبل ترميمه، كان البيت «جوهرة معمارية من الزجاج مرفوعة فوق البحر مثل طائر خفيف مستعدّ للتحليق» بحسب المعمار إيلي نجم. لاحقاً تحوّل «إلى بيت بقناطر وقرميد ومطعم شرقي»!

 

سوء فهم للتراث الحديث الذي تميّز به لبنان وعاصمته في الخمسينيات والستينيات

 

ولأن المباني العامة ذات التصميم الفريد، بحسب المتخصصين، تصنّف في خانة «المتاحف وتراث الدولة» ما يفرض استشارة معماريين قبل ترميمها، تصف المهندسة المعمارية والباحثة هالة يونس ما يجري في القاعة الزجاجيّة بأنه «عمل تخريبيّ لإحدى تحف سلام المعماريّة، ولتصميم له علاقة بالحداثة في بيروت». فالعمل المعماري «هو عمل متكامل وملكيّة فكريّة لصاحبه لا يحقّ لصاحب المبنى التدخّل فيه، وخصوصاً إذا كان مرفقاً عاماً»، كما أن الترميم يجري غالباً «من دون مراعاة المفاهيم الخاصة بمصمّمه والمصطلحات الهندسيّة التي بني بها، فيصبح، تالياً، تشويهاً لإرث أي معمار يترك عملاً متكاملاً خلفه». تستفيض يونس في شرح «التصميم الفريد» الذي يميّز القاعة وعلاقته بحقبة الحداثة التي «تعني التقدّمية والانفتاح والمجتمع الأفضل والأفق الجديد. وهذا ما تمثّله القاعة الكبيرة ذات المجال المفتوح والمتاح للعامّة بعلاقتها التشاركيّة بين الداخل والحيّز العام. إنها بناء من الاسمنت الصلب له نتوءات (وليست قناطر كما يجري الظنّ بها) تمثّل كواسر للشمس من الباطون المسلّح الطائر الذي يحمل نفسه فوق الرصيف. ما يجري اليوم هو إلصاق قناطر فوقها. القناطر جميلة، لكن في مكانها الصحيح حيث تتناسب والتصميم الموجود». وتسأل: «ما معنى إضافة عمود الى واجهة الصالة؟ عكاز على الرصيف مثلاً؟ هل ثمة تبرير إنشائي له؟ وإذا كان من مشكل في البناء ــــ وهذا مستبعد ــــ فيجب إيجاد حل معماري يحترم المبنى. كما أنه ليس هناك سبب لتغيير واجهة المبنى بطريقة فظّة عبر تكسير تلبيس الحجر الجميل الذي يعود إلى الستينيات، عدا عن التقطيع الداخلي الذي يغيّر من وجهة استعمال القاعة».

بعد أشهر، يُعلّق شريط أحمر بين دفّتي القناطر الدَّخيلة التي أضيفت إلى القاعة ــــ ربما وضعت القناطر لهذه الغاية ــــ ويحضر المقصّ ثالثاً بين طرفي اتفاقية الترميم (نائبة رئيس «مؤسسة الوليد الإنسانية» ووزير السياحة). حينها لا يسع القول في دولتنا سوى أنها انفردت في العبور إلى فترة «ما بعد الحداثة» الخاصّة بها، بعد كلّ التشويه الذي طاول العديد من الأبنية التي تعود إلى فترة الحداثة.

 

 

عاصم سلام الرؤيوي: كلامه يصحّ الآن وهنا

 

 

 

في مقابلة مع «الأخبار» عام 2009، قال عاصم سلام، رئيس نقابة المهندسين السابق، لدى سؤاله عما تفتقر إليه بلدية بيروت (التي ترشّح إلى انتخاباتها البلدية عام 2004 وانسحب): «الأهم أنها بلدية لا تقرّر، ولا أفق واسعاً لديها يسمح بمعالجة الهموم المطروحة على المدينة». الرئيس السابق لهيئة المعماريين العرب ومؤسس قسم الهندسة المعمارية في الجامعة الأميركية في بيروت، لفت الى أن استحداث منصب المحافظ «سبّب شللاً في دور المجلس البلدي»، معتبراً أن «تشابك الصلاحيات قيّد الطرفين وأفقد البلدية دورها، وخصوصاً في ما يتعلّق بالتنظيم المدني».

كان سلام معروفاً بنقده للتنظيم المدني والمخطط التوجيهي لمدينة بيروت (وُضع عام 1954) وكذلك بموقفه المعارض لمشروع إعادة إعمار وسط بيروت. المعمار الرؤيوي، خريج جامعة كامبردج في إنكلترا في 1950، صمم مبنى الـ«بان أميركان» في وسط البلد وسرايا صيدا وجامع الخاشقجي، وخلص في المقابلة حينذاك إلى القول «بيروت خلص انتهت. لا أمل أبداً في تصحيح المساوئ. هناك تمدّد عشوائي منظّم وتجهيزات لا تستوعب كلّ هذه الكثافة». تلك المساوئ بدأت تطاول أعماله اليوم.

 

«المنحة» تُلزم بالصمت والمهندسون غير معروفين!

يلتزم المعنيّون بالترميم الصمت. المديرة العامة لوزارة السياحة ندى سردوك في «مهمّة وإجازة خارج البلد» كما تلقت «الأخبار» الإجابة عبر الهاتف. العمّال المنهمكون في أشغال القاعة يحيلون الزائر إلى سردوك، المسؤولة المباشرة، ولا يعرفون من هو المهندس المسؤول عنهم. وزير السياحة أواديس كيدانيان، الذي أبرم في أيار الماضي اتفاقية تعاون لترميم القاعة وإعادة تأهيلها مع الوزيرة ليلى الصلح حمادة، وأصرّ على تسمية القاعة باسمها، كان صريحاً في اتصال مع «الأخبار»: «لن أجيبكم، وخاصة في هذا الموضوع»! أما محافظ بيروت زياد شبيب، الذي منح قبل شهرين موافقته لوزير السياحة (الطلب رفع في آب 2018)، فلا يجيب على هاتفه.

موافقة المحافظ شملت «أعمال الطرش والدهان وأعمال التكييف وكل ما يتطلب من أعمال الديكور الداخلية، وتركيب سقالة خارجيّة وإشغال جزء من الأملاك العامة المجاورة». أي أنّها لم تشمل إنشاء أربعة أعمدة على الرصيف، علماً بأن تنفيذ أشغال باطون مسلّح وإنشاء أعمدة خارجية وبلوكات صلبة يحتّم مرور الرخصة بنقابة المهندسين، الأمر الذي لم يحصل. وعلمت «الأخبار» أن نقيب المهندسين جاد تابت التقى كيدانيان أخيراً، وتلقى وعداً من الأخير بلقاء المهندسين المشرفين على المشروع، غير المعروفين إلى حينه. لذا يُنتظر من تابت، المعمار ورئيس هيئة المعماريين العرب، التحرّك بنتيجة اللقاء «الموعود» ووفقاً لجواب وزير السياحة، وطرح القضية أمام الرأي العام.

 

الأبنية العامة هاجس سلام

تعرّف المعمار إيلي نجم إلى عاصم سلام في عام 1977 وعمل معه في أكثر من مشروع مثل جامع الخاشقجي. يعود نجم إلى محاضرة سابقة في «الندوة اللبنانية» شرح فيها سلام هاجسه إزاء «عدم وجود أبنية رسمية أو حكومية ضخمة تجسّد التراث اللبناني الخاص. وهذا الهاجس دفعه لاحقاً إلى تصميم مبنى وزارة السياحة وسرايا صيدا». أراد سلام من تصميم مبنى السياحة والقاعة الزجاجية «مبنى لبنانياً يحاكي منطقة لبنانية خاصّة، عبر إضافة طابع ثقافي لشارع الحمرا التجاري، في وقت كان سائداً فيه نمط العمارة المغلق بقناطر وقرميد». ويلفت الى أن «ما يمكن أن نعتقد أنه قناطر في واجهة الصالة الزجاجية ليس كذلك بالضبط، إنما شكل معماري جميل مستوحى من التراث اللبناني وفق العمارة المودِرن. أي أنها ذات طابع لبناني، لكن بحالة جديدة تتوافق مع الحاضر وحاجاته». نجم، المعارض الشرس لأعمال ترميم الصالة الزجاجيّة، يشدّد على ضرورة «الحفاظ على العمارة اللبنانية الحديثة، التي عرفت فترة من الركود، وخصوصاً أننا سوق صغيرة ولا يمكننا أن نكون مركز تجارب لأساليب جديدة في العمارة».