إزرعوا على الأسطح وفي مواقف السيارات وفي المساحات الضيقة
الحاجة أم الاختراع. ويوماً ما قيل لنا إن زراعة البلاكين قد تخفّف من عبء الأزمة. لكنّ ثمة بعداً آخر لجعل الخس والحبق والشومر والبندورة والفريز والخيار «تزيّن» أسطح المنازل وجدران مواقف السيارات. هي عامة الزراعة بدون تربة، بعبارات أخرى. هناك في بلاد الساموراي، مثلاً، نجح اليابانيون في إنجاز تقنية تعتمد على غشاء مصنوع من مادة البوليمر وإنتاج محاصيل زراعية آمنة للغاية. وهنا في لبنان، التغيّر المناخي وشحّ المياه يستدعيان السؤال: هل من خيارات بديلة جدّية مماثلة؟ نقرأ أن غشاء البوليمير يحمي المحاصيل من الأمراض دون الحاجة إلى استخدام المواد الكيميائية.
التقنية اليابانية الثورية تحيلنا مجدّداً للإطلالة على مصير الزراعة المائية (هيدروبونيك – Hydroponics) في لبنان. فهي إحدى طرق الزراعة بدون تربة، والكلمة مشتقّة من الكلمتين اليونانيتين: هيدرو (الماء) وبونيك (العمل). التقنية التي تشير إلى علم نموّ النباتات دون استخدام التربة ليست بالجديدة. فتاريخياً، شهدت جنائن بابل المعلّقة إحدى أولى التجارب الموثّقة التي تمّ من خلالها التفكير بالزراعة خارج الأراضي الزراعية التقليدية عبر استعمال تربة منقولة. وفي العام 1930، كان الدكتور وليم فريديريك جيريكه من جامعة كاليفورنيا أوّل من لجأ إلى هذا المصطلح، محوّلاً إياه من الاستخدام البحثي العلمي إلى نطاق تجاري أوسع. ثم أقام الأميركيون في الحرب العالمية الثانية محطات في جُزر الباسيفيك لإنتاج المزروعات المائية من أجل إطعام الجنود. وراحت التقنية تتمدّد لاحقاً لتصل إلى دول أوروبية مثل فرنسا، إسبانيا وانكلترا. نعود إلى لبنان ونسأل أكثر عن واقع تقنية الهيدروبونيك.
«سَيلٌ» من الإيجابيات
البداية مع المستشار والمهندس الزراعي، ريمون خوري، الذي شرح كيف تحتاج النبتة الخضراء إلى عناصر خمسة أساسية لنموّها: المياه، الأملاح المعدنية، الشمس، ثاني أكسيد الكربون والكلوروفيل. «تقوم التربة عادة بتأمين المياه والأملاح المعدنية كما تساهم في تثبيت النبتة. أما الزراعة المائية فترتكز على توفير الكميات المحدّدة من العناصر الغذائية للجذور النباتية في محلول يصل إليها عبر أنابيب مياه بدلاً من التربة. هذا إضافة إلى نظام تثبيت للنبتة مثل نظام (NFT Nutrient Film Technique) – كما يظهر في الصورة – وسواه». الزراعة هذه تتمّ في أماكن مغلقة تماماً أو نصف مغلقة حيث تتوفّر الشروط المناسبة من رطوبة ودرجة حرارة وإنارة. أما كميات المياه المستخدمة، فلا تتخطى الـ85% من الكمية التي تتطلّبها الزراعة التقليدية والتي تذهب هدراً في معظم الأحيان. من هنا تأتي أهمية الزراعة المائية في ظلّ أزمة شحّ المياه المستفحلة – دون حلول في الأفق – في لبنان. «هناك خزان مياه نضع فيه الأملاح المعدنية ونضخّ منه بواسطة الأنابيب إلى كافة النباتات، فتأخذ حاجتها قبل أن تعود المياه مجدّداً إلى الخزان لتجري عملية مراقبة نسبة الأملاح فيها بشكل يومي. ولتفادي عملية التسمّم (Intoxication)، نقوم بتغيير المياه كل عشرة أيام، فنحوّلها إلى النباتات العطرية والطبية كالرومارين واللافندر وغيرها»، كما يضيف خوري.
الحدّ من هدر المياه ميّزة. فماذا بعد؟ الزراعة في أماكن غير متاحة للزراعة التقليدية هي من أبرز إيجابيات الزراعة المائية، إذ يمكن القيام بها على الأسطح أو في مواقف السيارات مثلاً. كما هناك الاستفادة من المساحات كونها تتمّ بشكل عمودي ضمن نظام يتألف من عدة طبقات ما يسمح بإنتاج كميات أكبر ضمن مساحات أقلّ. وبنفس القدر من الأهمية، هناك عامل التجانس في الإنتاج من حيث الشكل بسبب حصول النباتات على الكميات نفسها من المياه والأملاح وبشكل متساوٍ، بِعكس الزراعة التقليدية حيث لا يصل إلى بعضها الغذاء الكافي. انتقالاً إلى التوفير في اليد العاملة: «تحتاج كل 3 دونمات مزروعة تقليدياً إلى عامل واحد، في حين نستطيع في الزراعة المائية مضاعفة الإنتاج خمس مرات بِعدد عمال أقلّ»، بحسب خوري. وقائمة الإيجابيات تطول. من التوفير على جيب المزارع في ظلّ ارتفاع أسعار الكيماويات (ولم تزدها الحرب الروسية – الأوكرانية إلا ارتفاعاً)، إلى الاستغناء عن المبيدات المقاوِمة لأمراض التربة. ناهيك بالحفاظ على البيئة بخلاف زراعة التربة حيث يتمّ استخدام الأسمدة بشكل عشوائي.
أصحاب الاختصاص يتحدّثون عن منتج زراعي مائي عالي الجودة ومعقَّم وآمن للاستهلاك. ولمصلحة الأبحاث العلمية الزراعية تجربة خاصة في هذا السياق. فماذا تخبرنا المهندسة الزراعية المسؤولة عن مختبر الأعلاف في المصلحة، سيلين برباري؟ «نعمل على الزراعة المائية للأعلاف ولدينا نظام لإنتاج الأعلاف المستنبتة، إذ نقوم بإنتاج العلف الأخضر خلال 7 أيام فنحصل من كل كيلوغرام شعير حَب على 8 إلى 10 كيلوغرامات علف أخضر». والتقنية لا تقتصرعلى الأعلاف فقط. فالمصلحة تقوم بتطبيقها أيضاً على النباتات الورقية ذات الجذور الصغيرة مثل الخس والفريز والبندورة وغيرها. لكن هل الإنتاج آمن وصحّي، كما نسمع؟ «هو آمن تماماً… فالنبتة تأخذ حاجتها كما لو كانت مزروعة في التربة، لكنه يصبح غير آمن في حال استُخدمت المبيدات بشكل عشوائي وغير مدروس. من هنا تُعتبر المراقبة الدورية أساسية. فنحن لسنا بحاجة إلى مهارات عالية إنما إلى متابعة دقيقة خاصة لنِسب الملوحة والحموضة»، على حدّ قول برباري.
المصلحة تؤمّن المساعدة لغرض الزراعة في الأماكن الضيّقة التي لا يمكن الاستفادة منها في الزراعة التقليدية. من تنظيم العديد من الدورات لتدريب كل راغبٍ كي يصبح مزارعاً بذاته، إلى الجولات على المناطق وإلقاء المحاضرات. وتلفت برباري: «بسبب الأزمة الاقتصادية، باع لبنانيون كُثر مواشيهم لعدم قدرتهم على شراء الأعلاف. نحن نقول لهم: اعتمدوا نظام الهيدروبونيك في بيوتكم وأنتجوا الكمية التي تريدون وعلى مدار السنة». وعن سؤال حول إمكانية إلغاء الزراعة المائية لدور المزارع التقليدي، أوضحت برباري أن الأرض تبقى الأساس لأن إنتاجاً كثيراً لا يتحقّق إلا في التربة (كالشجر والشجيرات). كما يصعب على المزارع المتمسّك بأرضه أن يستبدلها بزراعة مائية. لذا ليس من السهل أن تتحوّل الزراعة المائية يوماً إلى زراعة بديلة بالمطلق، لا بل ستبقى زراعة مساعدة. «الهدف ليس الاستغناء عن التربة إنما التخفيف عنها، خاصة وأننا بتنا لا نعلم ماذا وكيف ومتى نزرع على وقع تفاقم آثار التغيّر المناخي».
نتّجه إلى وزارة الزراعة، وتحديداً إلى المهندس الزراعي، محمود جابر. ونستفسر عن كون المبادرات فردية أو عبارة عن مشاريع صغيرة لا ترقى إلى مستوى الإنتاج التجاري في معظم الأحيان. «غالباً ما لا تستطيع المشاريع الصغيرة الاستمرار بسبب قلّة الخبرة وعدم الإلمام الكافي في عملية إدارة النظام أو مواجهة المشاكل التي تكون قاتلة في كثير من الأحيان. هذه الأنظمة مقفلة وجميع النباتات مترابطة. فالإصابة بأي مرض فطري تنتقل إلى جميع النباتات ما يكبّد المزارع خسائر فادحة». ثم أن كلفة تركيب الأنظمة اللازمة، مثل أنظمة خلايا التبريد والمراوح خلال فصل الصيف إضافة إلى مصاريف الكهرباء المرتفعة لتشغيل هذه الأنظمة، معوّقات لا تقلّ شأناً. أما كلفة رأس المال في الزراعة المائية، فتساوي ثلاثة أضعاف مثيلتها التقليدية وخاصة في بدايات المشروع.
هذه العوامل إضافة إلى غياب خبرات متخصّصة بما فيه الكفاية تحول دون تطوّر الزراعة المائية وانتشارها على نطاق أوسع. ويشير جابر إلى أن عدد المشاريع ذات الصلة والتي تعتمد على نظام NFT ذات حجم اقتصادي في لبنان يفوق الـ32 مشروعاً. غير أن معظمها أُقفل ولم يبقَ منها سوى 8 مشاريع. أما تلك الصغيرة فتزيد عن 40 وقد توقّف أكثر من نصفها بعد أقلّ من ستة أشهر على انطلاقها. ومن الأسباب عدم توفّر الكهرباء على مدار الساعة وكلفة استثمار الطاقة الشمسية وغياب الإشراف الفنّي المستدام. أما المشاريع التي تستخدم وسطاً زراعياً على غرار كوكوبيت (cocopeat)، وهو عبارة عن ليف نباتي يُصنَّع من قشور جوز الهند، فيبلغ 75. وإذ نجحت هذه المشاريع في زراعة الفريز، إلا أنها فشلت في زراعة الخيار والبندورة والفليفلة. والسبب يعود إلى افتقار الوسط الزراعي للكميات الكافية من الكالسيوم والماغنيزيوم والحاجة الدائمة إلى إضافة مدروسة من قِبَل مهندسين مختصّين.
سعيٌ وأمل
الوزارة، كما يقول جابر، تسعى لتأمين المعلومات الفنية للمزارعين الذين يستخدمون التقنية من خلال التواصل المباشر أو القيام بزيارات ميدانية على كافة الأراضي اللبنانية. كما تواظب على الحث على استخدام أصناف ملائمة واختيار أسمدة متخصّصة في حال توافرت الشروط لدى المزارعين كي تأتي الزراعة المائية بنتائج مجدية. فالتوجيه باستخدام الأنظمة المناسبة لظروف هؤلاء المادية ولخبراتهم تخطّياً للعقبات عامل رئيس هو الآخر. «الوزارة تعمل على نشر ثقافة الزراعة المائية بدعم من الوزير، الدكتور عباس الحاج حسن، والمديرالعام، المهندس لويس لحود، وإيجاد حلول عملية يمكن للمزارع تطبيقها في ظلّ ارتفاع أسعار المدخلات الزراعية والمحروقات المستخدمة في عملية ري الأنظمة ونقل المنتجات إلى الأسواق، أكثر من ضروري»، كما يتابع. الأمل يكمن في زيادة موازنة الوزارة للعمل على إنشاء محطات تجارب متخصّصة ونشر الزراعة المائية بالشكل الصحيح. هكذا يختم جابر. فلنأمَل.