يُصرّ خبير في الملفّين السوري واللبناني على وصف 2016 بـ«سنة الهستيريا» بعدما كان وصف العام 2015 بـ«عام الجنون»، وكان محقّاً، وهو المطّلع عن كثب على أسرار كثيرة في شأن النزاع الدائر على هاتين الساحتين. وعلى رغم اعترافه بأنّ مسيرة التسويات والحلول بدأت، لكنه يرى مساراً زمنياً طويلاً وشاقاً ومتعرّجاً قبل ولادة الحلول ستتخلّله محطات دموية عنيفة، وهو ما سيشهد عليه النصف الاول من السنة الجارية.
يأتي الصدام السعودي – الايراني الأخير بمثابة الدليل الواضح الى ما ينتظر المنطقة خلال الاشهر القليلة المقبلة. وحتى لو أراد البلدان البدء بتنفيذ استدارة جدية لاستعادة العلاقات الطبيعية، ولو بحدّها الادنى، فإنّ ذلك سيتطلب وقتاً طويلاً بعد المستوى المتأزّم الذي بلغته الامور.
وبصرف النظر عن الأسباب الداخلية لكلا البلدين، والتي تدفع في اتجاه رفع منسوب التوتر والحماوة، إلّا أنّ أسباباً لا تقلّ أهمية وتحمل طابع المصالح الاقليمية الحيوية تجعل من النزاع الدائر نزاعاً شائكاً وبالغ التعقيد.
فمنذ انتصار الثورة الاسلامية في ايران تتضارب المصالح بين الجبّارين الإقليميين، ويُضاعف من حدتها التناقض الإيديولوجي والديني مع سعي طهران لتصدير ثورتها الى دول المنطقة، ولبنان أوّل وأبرز من تأثر به.
ومع ولادة الاتفاق النووي بين ايران الاسلامية والعالم الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الاميركية، بدا واضحاً أنّ الشرق الاوسط دخل لتوّه مرحلة جديدة وأنّ خريطة جيو- سياسية جديدة بدأت تترسّخ.
من هنا يقرأ البعض أنّ الرياض تندفع عن سابق تصوّر وتصميم في تصدّيها لطهران، وذلك قبل ايام من تطبيق الاتفاق النووي، ويعني ذلك محاولة الالتفاف مسبقاً على المكاسب السياسية التي حقّقتها طهران وتسعى لاستكمالها. وبعبارة مختصرة تسعى السعودية للحدّ من تأثير ايران في الشرق الاوسط بسبب الاتفاق النووي وملحقاته السياسية السرية.
امّا ايران التي حاولت التخفيف من خطأ مهاجمة السفارة السعودية في طهران، فإنها تبدو ماضية في رسم خريطة نفوذها الجديد. وما بين سَعي إيران لتكريس دورها الاقليمي المحوري الجديد ومحاولة السعودية لاحتوائه، ارتفع منسوب التوتر ليبلغ الذروة مع تسجيل حرص لدى الطرفين على عدم الوصول الى مرحلة الصدام المباشر المفتوح.
وعلى رغم أنّ السعودية ترى في التصعيد السياسي مصلحة مباشرة لها في إطار فرز مواقف الدول الاقليمية ومحاصرة سعي ايران الى التمدّد بهدوء وتحت ستار موقعها الجديد، إلّا أنّها كرّرت حرصها على المشاركة في المفاوضات الدائرة حول سوريا الى جانب ايران.
وفي المقابل، بَدت ايران مدركة التبعات السلبية للنزاع السياسي الحاصل، ربما لأنها تعرف أنّ الكلمة الاساس تبقى للنتائج الميدانية التي ترسم وحدها الخريطة الجيو- سياسية، وبعد ذلك هناك وقت طويل مُتاح للمعارك السياسية.
بعد نحو اسبوعين من الآن، جولة مفاوضات ثالثة حول سوريا لا يُعلّق عليها الديبلوماسيون آمالاً لتحقيق تقدّم فعلي، فما بعد هذا «الفشل»، سيلفح لهيب المعارك مناطق المواجهة في سوريا.
وفيما تولّت دول خليجية مهمّة تأمين وصول مقاتلين جدد من افغانستان وباكستان الى سوريا لتدعيم الجبهات، يضع النظام السوري وحلفاؤه اللمسات الاخيرة على استعداداتهم العسكرية بهدف إنجاز مكاسب ميدانية تسمح لهم لاحقاً بفرض أوراقهم على طاولة المفاوضات.
وتمّ رسم الخطة العسكرية من دون التعرض للخطوط الحمر الموضوعة دولياً، أي في الإبقاء على التوازنات الموجودة، ولكن على أساس منح أرجحية ميدانية واضحة للنظام من خلال السيطرة على مواقع حيوية مثل جسر الشغور وحلب وتنظيف منطقة «سوريا المفيدة» بكاملها وربطها بعضها ببعض من خلال تواصل آمن.
عندما دخلت روسيا الحرب في سوريا تحقّقت إنجازات عدة أبرزها على الاطلاق استعادة التوازن الميداني بعد رجحان خطير لكفّة المتطرفين بلغ حدّ السيطرة على جسر الشغور وتهديد اللاذقية.
لكنّ الهدف الروسي بقلب المعادلة من خلال منح الارجحية المطلقة للنظام السوري لم يتحقّق، ومعه تراجع الكلام الروسي عن تدخّل وفق مدة زمنية لا تتجاوز الاربعة اشهر. ووفق مصادر مطلعة فإنّ القيادة العسكرية الروسية عاودت درس خططها مجدداً وتفاهمت مع القيادة العسكرية السورية و«حزب الله» على حملة عسكرية جديدة يكون فيها الدور العسكري الروسي أكثر فعالية مع استقدام اسلحة جديدة وصواريخ حديثة وخطة عسكرية مختلفة.
وكذلك، عمد «حزب الله» الى تعزيز مجموعاته بقوى النخبة، لكنّ الأهمّ ما حصل على مستوى الجيش النظامي السوري. ذلك أنّ القيادة السورية نجحت في تجنيد ستين ألف مقاتل، جمعتهم في إطار فيلق عسكري، ولو أنها كانت تأمل في الوصول الى مئة الف جندي. وقد أخضع هؤلاء لدورات عسكرية أشرف على جوانب منها خبراء روس، وتمّ تقديم علاوة شهرية زيادة على الراتب خصّصتها ايران وبلغت نحو المئة دولار لكل جندي.
وسيتولى هذا الفيلق مهمة رأس الحربة في المعارك المقبلة قريباً، خصوصاً لجهة الإطباق على حلب. وإضافة الى التدريبات الخاصة لهؤلاء، فإنّ العامل الذي يمتازون به هو أنهم لم يخوضوا معارك سابقاً، وبالتالي لم يشعروا بعد بالتعب أسوة ببقية وحدات الجيش.
هذا اللهيب السوري المقبل سيصيب بشظاياه دول الجوار بدءاً من تركيا التي تضع مصالحها على المحك، خصوصاً في حلب، اضافة الى الساحة اللبنانية ولو بأشكال مختلفة.
ومع الضربة التي تعرّضت لها مبادرة الرئيس سعد الحريري الرئاسية والكلام عن تمسّك «حزب الله» بسلة تسويات، ازداد اقتناع العواصم الغربية ومعها الرياض بأنّ المسار القائم في لبنان بدأ يسلك جدياً وفعلياً درب التحلل المؤسساتي الذي سينتهي حكماً بالمؤتمر التأسيسي، وهو الهدف الذي يسعى اليه «حزب الله» لاقتناعه بأنّ الظرف مؤات مع التغييرات الكبرى التي تطاول دول الجوار وأنظمتها السياسية بدءاً من سوريا ووصولاً الى العراق واليمن.
وما من شك في أنّ السعودية متمسّكة بـ«اتفاق الطائف» الذي يمنحها مساحة نفوذ سياسي، وفي أنّ واشنطن، ومعها عواصم أوروبية، ملتزمة الحفاظ على هذه الحصة السعودية من خلال إبقاء اتفاق الطائف «حياً يرزق».
واستطراداً، فإنّ الاوساط الديبلوماسية المراقبة باتت تخشى ارتفاع منسوب المخاطر الامنية في لبنان في ظل الاشتباك السعودي – الايراني القائم والمعارك القاسية التي تنتظر سوريا وسَعي المجموعات الارهابية الى استعادة حيوية دورها، إن في منطقة عرسال وجرودها، أو حتى في الداخل اللبناني بدليل اكتشاف عدد من الشبكات الارهابية أخيراً.
أضف الى ذلك أنّ تنظيم «داعش» الذي يعيش قلق إنهاء حضوره في كلّ من سوريا والعراق بعدما شكلت عملية تحرير الرمادي خطوة ناجحة في هذا الاطار، باشرَ بإرسال كثير من كوادره الى ليبيا، حيث يعمل على استكمال بنية تحتية له في مدينة «سَرت» وقرب منابع النفط، وهو في الوقت نفسه يسعى الى هزّ الاستقرار في لبنان كعامل ضغط على القوى المهاجمة ولفتح جبهة خلفية على «حزب الله» الذي نجح الى جانب الجيش السوري في السيطرة على كل الاراضي السورية المحيطة بالحدود اللبنانية.
وهو ما يعني بطريقة او بأخرى عودة الخطر الامني، لكن وفق عملية كبرى تُحدث صدمة قوية وتدفع بجميع الأفرقاء الى مراجعة حساباتهم السياسية وفق نظرة واقعية. ولا حاجة للقول إنّ القرار الدولي سيسعى للاستفادة من «الصدمة» المتوقعة لإعادة ترتيب الوضع اللبناني وفق العناوين العريضة التي يحملها.
في اختصار ألسنة اللهيب لم تعد بعيدة.