رفع إحياء مراسم عاشوراء هذه السنة خطاب الهوية والحشد المذهبي إلى مستويات لم يشهدها المشرق العربي في تاريخه الطويل وحروبه الكثيرة. خُلعت القفازات الحريرية ونضح كل إناء بما فيه وقيلت الأشياء كما هي. ثمة صراع سنّي – شيعي في المنطقة تبدو معه القضايا الأخرى هامشية. صراع يشكل القنبلة النووية الإسلامية الوحيدة القادرة على تدمير ما تبقى من دول ومجتمعات.
لا أفق لتسوية سياسية بين أقطاب الصراع المذكور المفتوح على حروب حدودية وأهلية ومذابح طائفية. لا لغة مشتركة ولا مصالح يمكن أن تخفف سرعة الاندفاع إلى مواجهة شاملة، في ظل فراغ القيادة العالمية سواء في الدول الكبرى أو المؤسسات الدولية التي أنشئت بالضبط للحيلولة دون اندلاع حروب من النوع الذي نراه يقترب منا.
نجحت إيران نجاحاً باهراً في إنشاء كتلة موالية لها في العديد من البلدان العربية. نجحت في تظهير العطب العربي العميق في أولوية الولاء للجماعة الأهلية على الولاء للدولة. وهو عطب لا تتحمل إيران مسؤوليته بقدر ما تتحملها عقود من السياسات القصيرة النظر ومن الإهمال الكامل لمعاناة الأرياف والفئات المهمشة والاستلاب الاجتماعي والاقتصادي. وها هي إيران تحمي مداها الحيوي بدماء العرب والكرد، السنّة والشيعة والمسيحيين وغيرهم، من الطبقات كلها، لضمان هيمنتها وأمنها واستقرار النظام فيها، بشعارات تتراوح بين الزحف إلى القدس وبين حماية المقامات الشيعية.
لكن الضغط على المجتمعات العربية على هذا النحو، لن يؤدي فقط إلى قسمتها بين سنّة وشيعة. بل سيفضي إلى انهيارها الكامل بسبب استحالة تبلور هوية عصبية سنّية تقابل نظيرتها الشيعية.
فعلى النقيض من الشيعة الذين يقوم تاريخهم السياسي (قبل تبني إيران مقولة «ولاية الفقيه») على الاعتراض على السلطة والدولة وتأجيل النظر في مسائل الحكم، يعتبر أهل السنّة أن الحكم لهم بداهة وأن مؤسستهم الدينية شريكة فيه، في الحد الأدنى، وهو ما تكرس على امتداد تاريخهم منذ الدولة الأموية وصولاً إلى السلطنة العثمانية. عليه، يخطئ خطأ فادحاً من يتصور إمكان ظهور قوى سنّية تقوم على العصبية وعلى توتر الجماعة الأهلية لمقارعة الجماعة الشيعية.
يفتقر تصور «استنهاض» السنّة لحرب استعادة المكانة المهدورة إلى المثال التاريخي وإلى التدقيق في آليات العلاقات الداخلية بين السنّة وبين الدولة، سواء كانت سلطانية أو تسلطية أو حتى تحت حكم أقلية انقلابية تزعم الحداثة، على غرار الحكم الأسدي لسورية أو تصفية آثار الديكتاتورية على النحو الجاري اليوم في العراق. ويفتقر على الخصوص إلى إدراك تعدد تصورات السنّة عن أنفسهم ولا واقعية حصرهم في فئة اجتماعية أو سياسية واحدة.
بكلمات ثانية، لن تجد الأحزاب والحشود والجيوش الموالية لإيران من تحاربه الحرب التي تفترض أنها تنتظرها. والأرجح أن النموذج السوري سيتكرر في أكثر من مكان: خروج المناطق الريفية السنّية عن السيطرة وهجرة سنّة المدن إلى خارج البلاد. وهذه وصفة لحروب تمتد عقوداً وتجد دائماً من يمولها ويوظفها ويستفيد منها، من دون أي نية لاعادة توحيد الدولة أو مؤسساتها. ذلك أن سؤال الدولة والسلطة وتقاسمها هو الأحجية التي لا يريد أحد حلّها.
في غضون ذلك، ستظل هستيريا الهويات تطحن بلادنا على دوي أصوات تنادي بالمقاومة والتحرير.