كلام في السياسة |
إذ صدقنا الباحثين ميرشماير من جامعة شيكاغو ووالت من هارفارد، في دراستهما الشهيرة حول سيطرة اللوبي الاسرائيلي على مفاصل واشنطن، عندها لا يمكن اعتبارها عشوائية منفردة وغير متصلة، تلك الظواهر الميدانية والسياسية والإعلامية المتتالية منذ فترة. كأن ثمة خطاً بيانياً منطقياً واحداً، يربط بين الغارة الاسرائيلية على القنيطرة، مروراً باكتشاف صحيفة «واشنطن بوست» بعد أيام أن المخابرات المركزية الأميركية هي من حضّر لاغتيال عماد مغنية، بالتعاون مع الموساد الاسرائيلي، انتهاء بسبق صحيفة «نيويورك تايمز» أن مغنية نفسه من اغتال رفيق الحريري.
كل ذلك، معطوفاً على زعيق نتنياهو المستمر في وجه أوباما. نقاط متفرقة متقاربة في مشهد المنطقة، لا يفسرها ولا يربطها إلا مقولة أن اسرائيل مذعورة من مجرد التفاوض الغربي ــــ الإيراني، فكيف بإرهاصات الاتفاق بين واشنطن وطهران. حتى أنه يمكن للمراقب الانطباعي أن يسجل نمطاً سلوكياً في ردود فعل تل أبيب، يكاد يشبه انفعالات المراهق حيال اكتشافه خيانة عشيقته. أو هستيريا العشيقة حيال إدراكها وجود منافسة أو بديلة. شيء من هذه السيكولوجيا السياسية ينتاب بعض التصرفات الاسرائيلية. وإن كانت مواقف الدول وأفعالها أكثر جدية وعمقاً من توصيف كهذا، غير أن الأحداث المذكورة لا بد إلا أن تشي بصبيانية اسرائيلية في التعامل مع العشيق الأميركي، حيال المنافسة الإيرانية.
أول رسالة احتجاج على الأرض، غارة القنيطرة. طبعاً للخطوة أهداف عسكرية وغايات ميدانية، ورسائل مشفّرة إلى كل من طهران والضاحية. لكن يظل خلف الغارة نوع من «التمريك» على الأميركي. غمز من قناة تلك النزهة الحميمة بين كيري وظريف. كأن نتنياهو يقول لشارعه الأميركي، وللوبيه الصهيوني في المثلث الفدرالي: أنظروا بعيونكم، ها هم الذين تغازلهم إدارة البيت الأبيض، هم أنفسهم يتحضرون لضرب كياننا، الطفل المدلل لواشنطن، عبر حدوده الشمالية. كيري وظريف يداً بيد، فيما مسدس سليماني مصوب إلى صدغنا في القنيطرة… فهل تقبلون؟!
لم يصدر أي رد فعل أميركي جدي. لا بل استمرت أصوات استنكار وقاحة نتنياهو، في مجيئه إلى الكونغرس من دون دعوة رئاسية. ذهب الاسرائيلي أكثر في رفع صوته، واستمر العشيق الأميركي في تجاهله. ثار جنون العشيقة الاسرائيلية أكثر. لم ينفع تحريض الحبيب، فقررت الانقلاب وتحريض منافستها: فجأة تقرير في واشنطن بوست عن أن واشنطن قتلت عماد مغنية. صار الكيد «النسواني» مقلوباً: لم يرد علينا أوباما، حسناً، سنخاطب طهران بواسطة الإعلام الأميركي نفسه: من يغازلك اليوم، هو من تآمر معنا بالأمس على قتل رجلك الأمني الأول في المنطقة. تثقون الآن برجال البيت الأبيض، لكن إعرفوا أن هؤلاء أنفسهم من حرضنا على قتلكم من قبل!
لكن رد فعل طهران لم يختلف عن رد فعل واشنطن: التجاهل نفسه. ذاك الذي «يقتلك بضربات صغيرة»، كما تقول أغنية بيكو. لا بل الأسوأ، أن تصعيد نار الغيرة الاسرائيلية، ترافق مع كلام أميركي ــــ إيراني متبادل عن نية إنجاز الاتفاق في آذار، ومع خطوات عسكرية تصعيدية من جانب المثلث الإيراني ــــ السوري ــــ الحزباللاهي عند الحدود الشمالية للكيان الصهيوني.
مرة جديدة، أبدعت الهستيريا المراهقة. لم ترد واشنطن على الغارة في القنيطرة، ولم ترد إيران على توريط أميركا في اغتيال مغنية، إذن لا بد من الاستعانة بآخرين: تفضلوا، إيران وحزب الله هم من قتلوا رفيق الحريري. وكما عند كل اكتشاف، التوقيع باحث صهيوني. هكذا صارت الدعوة إلى الرياض والخليج وكل سنّة المنطقة، وربما إلى «داعش» و»النصرة»، للتدخل في صراع العشيقين. لا يكفي أن واشنطن تخون تل أبيب. لكن أكثر من ذلك، إنها تخونها مع الذي قتل رمزكم السياسي الأبرز في لبنان والمنطقة. فهل تقبلون أو تسكتون؟!
كل التقديرات تشير إلى أن هذا الصراخ الصهيوني لن يتوقف. لا بل سيتصاعد ويحتدّ. على الأقل حتى إمرار محطات خطاب نتنياهو في الكابيتول في 3 آذار المقبل، ومن ثم اجتماع إيران مع الخمسة زائداً واحداً في 16 منه. بعده انتخابات تل أبيب في اليوم التالي. وصولاً إلى موعد نهاية آذار، وانتهاء بمهلة الأشهر الستة الغربية ــــ الإيرانية التي بدأت في 24 تشرين الثاني الماضي. صراخ لن يتوقف عن محاولة العرقلة والتهويل والتهديد. صراخ مركّب الخلفيات. ففيه طبعاً بعدٌ انتخابي على قياس نتنياهو. وفيه بعد تنافسي مصلحي، إزاء مشهد الشرق الأوسط الجديد، والدول الإقليمية الكبرى فيه. وحسابات اسرائيل بين تركيا وإيران. لكن يظل فيه بعدٌ آخر وجودي. لا من جهة إيران وعدائها للكيان الاسرائيلي. ولا من جهة حزب الله ومقاومته على حدود هذا الكيان. بل الأخطر، بالنسبة إلى اسرائيل، أن الخطر يأتي اليوم من الغرب، ومن واشنطن بالذات. خطر من نوع إحساس الصهاينة بأن الغربيين والأميركيين باتوا يتساءلون – ولو بصمت – هل لا تزال اسرائيل حاجة، أم صارت عبئاً؟ هل هي ضرورة، أم عقبة؟ هل هي مضطهَدة، أم مضطهِدة؟ أسئلة هي الأخطر في تاريخ اسرائيل، وفي سببية هستيريتها.