Site icon IMLebanon

أنا يوسف يا أبي

 

«أنا يوسف يا أبي إخوتي لا يحبونني لا يريدونني بينهم يا أبي… يريدونني أن أموت لكي يمدحوني وهم أوصدوا باب بيتك دوني وهم طردوني من الحقل هم سمّموا عنبي يا أبي وهم حطموا لعبي يا أبي… هم أوقعوني في الجب واتهموا الذئب، والذئب أرحم من اخوتي»

 

بليغة وجارحة تلك القصيدة التي استوحاها محمود درويش من سيرة يوسف النبي ليصف بها فلسطين المنبوذة والمتروكة للذئب، المرمية في البئر والمباعة للعبودية.

 

لا يمكن لمن هم مثلي، من عاشوا على قصة فلسطين، ومن تربّوا على حكايا النكبة، ومن أكلوا وشربوا على صوت «أم كايد» العجوز وهي «تسولف» عن تفاصيل المأساة، والأهم من حلموا وتمنّوا بصدق بساطة الموت على تراب فلسطين، أن يتحولوا فجأة إلى متفرّجين حياديين، يتأسفون ويندبون المجتمع الدولي الميت أمام الظلامة الكبرى، وينتهون بالإقرار بأنّ لا حول لهم ولا قوة، ومن بعدها يشتمون العرب والمسلمين لتلكوئهم عن نصرة فلسطين. وبعد دقائق أو ساعات أو أيام أو اسابيع، ينسون أنّ يوسف واقع في البئر، أو أنه غارق لا محالة إن لم تمتد له يد لتنتشله، أو أنّ الذئب سينهش لحمه إن لم يجتمع الإخوة للذود عنه، أو يتركونه فيستعيضون عن جبنهم وخيانتهم بمديح يوسف بعد موته!

 

لكل هذا، من الصعب على منهم مثلي أن يكونوا عقلانيين في تحليلاتهم ومواعظهم، لأننا سنكون بالنتيجة مجرد منافقين يدعون الناس إلى التعقّل وضبط النفس، فيما الناس المجروحون يرفعون رايات وشعارات ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، يرفعون مفاتيح عملاقة صدئة لبيوت مُحيت عن الخريطة، وذاكرة الجد عن بيارات وأشجار برتقال في يافا، ودموع الحاجّة وهي تتغزل بحبّات الزيتون التي كانت تجمعها من الكرمل، وأحاسيس الرهبة والخشوع في أزقة القدس العتيقة، ومعانقة السماء في الحرم القدسي، وكلهم يحلفون بأنّ وجودهم هنا لم يكن من اختيارهم ولا لأنّهم شاركوا أو يشاركون في مؤامرة هم في الأساس ضحاياها الأول.

 

علينا نحن المتفرجين العاجزين التوقف عن إسداء النصائح أو التهليل لإنجازات لم تحدث، والإحتفال بها حتى وإن كانت من نسج الخيال، وإن حدثت فإنّها عادة تخدم أعداءنا، في حين أننا نعوّض عن عجزنا عن إنتاج أي شيء نافع بالخطب على المنابر، بسيل جارف من الأشعار، بنهر هادر من الإستنكار، ووعود ترعد بالويل والثبور، والأنكى بنبؤات الحرس الثوري الإيراني بأنّ «نقل السفارة إلى القدس سيعجّل نهاية إسرائيل!»، في حين أننا لم نسمع بصاروخ جدّي غير المفرقعات الإستعراضية التي أُطلقت ولم تصل إلى الجولان، وإن وصلت فلم تصب هدفاً ذي شأن، إلا بمخيّلة متصدّري المنابر العرّافين، المنجّمين، المتنبئين من خلف الشاشات العملاقة، بزوال دولة إسرائيل! فكل ما يهمّ قادة الحرس الثوري محلياً وإقليمياً هو المساومة على أرواح جديدة تختنق بالغازات السامة في فلسطين وسورية، ورسالتهم لإسرائيل مفهومة: «أتركونا في سورية ولبنان والعراق، ومن بعدها لن نمطركم إلّا بالشتائم لنحفظ ماء وجهنا».

 

ولا يفيد القضية شيء باستعراضات استدعاء السفراء أو طردهم «الموقت» مثلما فعل السلطان اردوغان في حركة مسرحية جديدة للتعبير عن العجز أو التواطؤ، فلو كانت الأمور جدّية لكانت العلاقة قُطعت من زمان!

 

والأهم هو أنّه لا يفيد إن اجتمعت دول العرب وممالكهم وإماراتهم لاستنكار نقل السفارة، فيما هم غير قادرين ولا راغبين في اتخاذ أي خطوة ذات معنى للتأثير على القرارات الأميركية التي ما فتئت تبتز شعوبها وحكامها وتُدخلهم في صراعات مع نفسها ومع محيطها!

 

الفلسطينيون وحدهم في الساحة، ولسنا نحن في موقع الناصح ولا الموجّه، لكن المثال الذي أعطته القيادات المتناحرة بالتقاتل على جلد الدب السارح في الغابات، فيما الذئاب متروكة لتنهش من لحم فلسطين، لن يعطينا الأمل بمستقبل غير الماضي. ولا يبدو حتى الآن أنّ المأساة وحمام الدم سيدفعان أصحاب القضية لتغيير المسار المتدحرج نحو الهاوية.

 

من جديد، لا شيء ينفع سوى مراجعة خارج نطاق ردّات الفعل للمسار، فلا الصبر التافه بانتظار لحل دولتين سينفع، ولا رفع الأصابع فوق جثامين الشهداء وعلى تلال الركام ينفع، ورّدات الفعل بعمل انتقامي أهوج سيكون ما يريده العدو ليغطي على مجازره.

 

ولكن، وبانتظار ذلك، فليس من المجدي ولا المنطقي لنا نحن اللبنانيين أن نزيد من الضغط على اللجوء الفلسطيني تحت حجة «منع التوطين». فلو سألت أي فلسطيني موجود قسراً في المخيمات المطوقة بالعسكر من جهة، وبالتخلّف المنسوب إلى الدين والعصابات البلطجية من جهة أخرى، عن رغبته بالبقاء في ما هو عليه، لأجابك فوراً بتمنيه الذهاب إلى أي مكان يشعر فيه بأنّه إنسان، وبالتأكيد ليس في لبنان.

 

إن العودة اليوم إلى نغمة التضييق على بعض العمالة بالنسبة للفلسطينيين، ومع أنّ بعضها فيه حق، فإنه سيُستغل حتماً في الإستخدام السياسي المحلي ويدفع البعض إلى المزيد من التطرّف. إن القانون الذي لا يستند إلى منطق الحقوق الأساسية للإنسان هو ساقط أصلاً، والأهم هو أن يراعي القانون مسألة تأمين الإستقرار