ماذا تقولين لصديق أجنبي إذا سألكِ: هل من الآمن زيارة لبنان هذه الأيام؟ هل تخبرينه عن الحياة الليلية العامرة في بيروت، أم عن العواقب الوخيمة لتورّط “حزب الله” في سوريا؟ هل تخبرينه أن منتجات “شانيل” و”لوبوتان” تباع هنا، أم أننا، حرفياً، نغرق في القمامة؟ هل تخبرينه أن في إمكانه السباحة صباحاً والتزلج بعد الظهر، أم أن نوابنا لا يتفقون حتى على انتخاب رئيس؟ هل تعبّرين له عن فخرك الفولكلوري بكونك لبنانية، أم تعترفين له بأنك تقضين صباحاتك في تحضير خطة بديلة في حال اندلاع الحرب مجدداً، لأن السلام هنا، مثلما قال الكاتب الفرنسي جان جيرودو “مجرد استراحة ما بين حربين”؟
اتُهمتُ، أكثر من مرّة، بأنني لا أرى سوى النصف الفارغ من الكأس، وبأن انتقاداتي المستمرة للوضع الراهن، أنا وسواي من “غربان الكتابة”، “تُجرِّصنا” وتُثني السيّاح عن زيارة البلد. لكن هذا ليس صحيحاً، ولا نحن مازوشيون نتمتّع بممارسة التشاؤم: نحن، بكل بساطة، أشخاص يواجهون الحقيقة المرّة عيناً بعين ويسمّون الأشياء بأسمائها، بينما كثر في لبنان، بل الغالبية أكاد أقول، هم أبطال الإنكار بامتياز. هؤلاء يعتبرون إنكارهم هذا غريزة بقاء، لكنه في الواقع مرض يقتلنا جميعاً ببطء، كذبةً بعد كذبة.
صدّقوني، لا أريد الانتقاد ولا أحبّه. لا أريد نشر غسيلنا الوسخ ولا يفرحني ذلك البتة. لكني لا أريد، في المقابل، العيش في فقاعة من اختراع أنانياتي الضيّقة. لا أريد إغماض عينيّ وضميري وقلمي عمّا يجري من حولي. لا أريد وطناً يقتلني على مهل: يقتل همّتي وحماستي ورغبتي في الاستيقاظ صباحاً ويقتل ما بقي من أحلامي. لا أريد أن يدفع إبنايَ ثمن قرارات اتخذها آخرون بالنيابة عنهما.لا أريد لهما الاعتذار أو الندم لأن المصادفة شاءت أن يولدا في بلد اسمه لبنان. لا أريد أن يُنظَر إليهما كإرهابيين محتملَين حتى إثبات العكس، كلما جالا في مدينة من مدن الغرب، لا لسبب سوى لأنهما يتكلمان العربية.
يا شركائي في هذه الأرض، المتشائم منكم والمتفائل: ما يحدّدنا كبشر ليس المنطقة الجغرافية التي ترعرعنا فيها، ولا اللغة التي نتواصل بها، ولا الدين الذي ورثناه من أبوينا. ما يحدّدنا حقاً هو ما نفعله بحيواتنا، والقيم التي ندافع عنها، والخيارات التي نقوم بها، والقرارات التي نتخذها، وأيضاً وخصوصاً صدقنا مع أنفسنا قبل الآخرين.
قد تكون الكأس اللبنانية نصف ملأى، لكن يملأها شيء واحد.
شيء واحد، إسمه الوهم.