عندما لا تحاول المجتمعات التحقق مما تسمعه، تكون قد فقدت حاسة البصر التي من خلالها تستطيع التبصّر في الحقائق والاشياء، وقيل قديما ان التمييز بين الحق والباطل لا يحتاج سوى ان تقطع المسافة بين ما تسمعه أذنيك الى ما تراه عينيك، وعندما يصبح كامل المجتمع اللبناني يعيش على الهمس والوشوشة وفاقد الرغبة والقدرة على التحقق مما يسمعه، يكون هذا المجتمع قد أصيب بالعمى السياسي الذي اصاب ويصيب كل مجتمعات الاستبداد العسكري والعقائدي والطائفي.
عندما يلتقي لبنانيان يسأل الاول الثاني:«شو سامع» ولا أحد يسأل:« شو شايف». تنازلنا عن البصر والتمعن والتأمل والاستشراف، وأصبحنا اسرى القيل والقال، وهكذا تموت حاسة البصر ومعها المشاهدة والقراءة والكتابه والابتكار، لأن كل ما ينتجه مجتمع العمى السياسي هو القيل والقال.
ايام النزاع الطائفي المسلح الطويل ورغم هول ما شاهدناه بقي هناك من يرفض تلك المشاهد المروعة والاجرام ويرفض تقديس هذه الطائفة او تلك، وكنا نحلم باليوم الذي نخرج فيه من الملاجئ المقيتة والأسر الطائفي الى الحياة والحريّة والأضواء، وكان الذين آمنوا بالعودة الى الاستقرار والازدهار اكثر بكثير من طائفيي هذه الايام الغارقين بالفشل والكآبة والادعاء والبطولات الجوفاء مع الإصرار على التذكير بما كان، لانهم عاجزون عن التبصر بما هو قادم على لبنان.
عندما يسود العمى السياسي تنعدم الحقائق، ويصبح الوجود بأسره مجموعة من الأصوات بدون معاني او دلالات، ومجموعة من الذكريات، ويستوطن الجميع بالماضي وينفصلون عن الواقع، وتصبح الشاشات كما الإذاعات نستمع اليها ولا نرى فيها ما يستدعي التبصر، وتبحث عن استثارة السمع بدل محاكاة العين والعقل والوجدان.
الفنون والثقافة أيضاً أصبحت سمعية غير بصرية، فغاب المسرح والسينما كأعمال ابداعية وأصبحت الدراما مجموعة من الحوارات كالمسلسلات الإذاعية، حتى الحركة التشكيلية لم تتوقف ايام الحرب الطويلة كما تراجعت هذه الايام، ومعها ايضا الصحف والكتب وكتاب المقالات التي تحتاج الى قراءتها بعينيك وعقلك، فكل ما يكتب الآن قد سمعناه على الشاشات وفي الإذاعات وعبر التلفونات والوشوشات.
وحدهم اطفالنا الآن يبصرون، لكنهم غارقون في عالم رقمي بدون رقابة او توجيه او ادراك، ولا نعرف ماذا يشاهدون وعن ماذا يبحثون ولا كيف ينظرون إلينا، لانهم يروننا ولا نراهم، ويحدثوننا عن مشاهداتهم فنسعد بها لاننا نعتقد بأننا أصبحنا نرى بعيونهم، وتنازلنا عن مسؤوليتنا البصرية تجاههم، مما قد يجعل المسافة الزمنية فيما بيننا بعيدة جدا. وقد نفقد معهم كل أدوات التواصل، وربما نجد أنفسنا في لحظة ما بانهم لا يعرفوننا كما عَرِفَنا اهلنا، ولا نعود نعرفهم بما هم ابناؤنا. سيندم كثيرا سجّانو الطائفية عندما يكتشفون بأن سجونهم أصبحت فارغة ممن يعتقدون، وابسط ما سينتجه مجتمع العمى السياسي الطائفي هو ذلك الارهاب الذي غيّر أولويات الدول القوية الكبيرة والصغيرة.
أتمنى ان لا يعتقد احد بأنني اتحدث كمبصر بين عميان، فأنا ايضا مصاب بالعمى السياسي ولا اعرف أين نحن و لا الى أين ذاهبون، وهذه الكلمات ما هي الا اعتراف بأنني لا ارى شيئاً، وإن ما اسمعه يجعلني شديد الحزن على نفسي وعلى مجتمعي الذي أحببته عندما كان شديد التبصر والتأمل والتفكر والتنور والانفتاح، وانني الآن اشبه بحال الشاعر العراقي الراحل احمد الصافي النجفي الذي عاش معظم حياته في بيروت ومقهى الحاج داوود في عين المريسة، وعندما كبر وفقد بصره عاد الى العراق، فقال:«يا عودة للدار ما اشقاها…اسمع بغداد ولا أراها»، ومع الأسف الشديد أقول:«انني مصاب بالعمى السياسي واسمع بيروت ولا أراها».