يبدو أن العماد ميشال عون يُصرّ على عزل نفسه عن الحراك الوطني، ويتفرّد باتخاذ المواقف التحريضية والتصعيدية، التي لا تخدم موقعه السياسي، وتُلحق أفدح الأذى بالبلد وأوضاعه الهشة، والمتقلبة على صفيح ساخن!
ويبدو أن «الجنرال» والمحيطين به، أضاعوا البوصلة الوطنية، وراحوا يعزفون على أوتار الشحن الطائفي والحقوق المسيحية، رغم إدراكهم المسبق، بعدم تجاوب الحلفاء أولاً معهم، وعدم استعداد جمهورهم لخوض معارك دونكيشوتية خاسرة من جديد، خاصة وأن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة تحاصر الجميع، فضلاً عن مخاطر اللعب بنار الأمن في الشارع، لألف سبب وسبب!
لا أصحاب «ورقة التفاهم» مع حزب الله، ولا دُعاة «إعلان النيّات» مع «القوات اللبنانية»، بوارد الإنجرار إلى لعبة الشارع، والمخاطرة بما تبقى من هيبة للدولة، أو الخوض بمواجهات ضد الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى، في مرحلة يُعتبر فيها التصدّي للتنظيمات الإرهابية أولوية مطلقة.
كذلك الحال مع كتلة النائب سليمان فرنجية وحزب الطاشناق، والقوى الأخرى المنضوية في تكتل «الإصلاح والتغيير» النيابي، فهي تعارض، بشكل علني وصريح لعبة التحريض الطائفي في الشارع، بل وتنتقد بشدة أية محاولة لتعريض الوضع الأمني للاهتزاز، والتطاول على القيادة العسكرية انطلاقاً من ضرورة وقوف الجميع خلف المؤسسة العسكرية في معركتها الحالية ضد الإرهاب، وللحفاظ على هذا «الحد الأنى» من الاستقرار الداخلي!
إذاً، لماذا هذا العناد العوني في خوض معركة الشارع وحيداً، ومن دون أية مناصرة من الحلفاء و..الأصدقاء؟
* * *
ليست هي المرة الأولى التي يسبح فيها عون عكس التيار!
وقد لا تكون آخر معاركه الخاسرة.. والتي بدأت باكراً مع بداية تعاطيه العمل السياسي، في عهد الحكومة العسكرية عام 1989، وخسر فيها معركتين متتاليتين: حرب التحرير ضد الجيش السوري، وحرب الإلغاء ضد «القوات اللبنانية».
وقاده رفضه العنيد للانضمام إلى مسيرة السلم الأهلي وإنهاء الحرب، بعد اتفاق الطائف، إلى خوض المعركة الثالثة الخاسرة في 13 تشرين الأوّل عام 1991، والتي انتهت بهروبه من قصر بعبدا، لاجئاً إلى السفارة الفرنسية، ومنها إلى المنفى الباريسي، بصفقة سياسية ملتبسة.
بالأمس، لم يتجاوب مع الجهود والمساعي الدبلوماسية والسياسية التي قادها الأخضر الإبراهيمي، لوضع خاتمة نهائية للحرب العبثية التي دمّرت البلد: حجراً وبشراً.
واليوم يرفض «الجنرال» العمل مع بقية الأطراف السياسية، على تفادي الوصول إلى الانهيار المريع، وتمرير هذه المرحلة الحرجة، داخلياً وإقليمياً، بأقل قدر ممكن من الخسائر والاهتزازات.
بل وأكثر من ذلك..
لم تنفع المحاولات العربية والدولية في إقناع جنرال الرابية الإفراج عن الانتخابات الرئاسية، وتسهيل عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية، مع كل ما يعني ذلك، من حفاظ على دور المسيحيين في السلطة، وإعادة التوازن إلى المؤسسات الدستورية، وإنقاذ البلد من الأزمة السياسية التي يتخبّط فيها، والتي تنعكس سلباً على المسيحيين أولاً، وعلى الأمن والاستقرار في البلاد ثانياً… وخامساً!
* * *
العماد ميشال عون، يَعلم قبل غيره، أن التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي، لم يكن خياراً لبنانياً وطنياً وحسب، بل وأيضاً نتيجة إجماع عربي وإقليمي ودولي، على ضرورة صون تماسك المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية الأخرى، عبر الحفاظ على قياداتها الحالية، وتجنب الوقوع في الفراغ، أو حصول أي اهتزاز في المناصب القيادية العليا، تفادياً لأية ارتدادات مفاجئة وغير مأمونة العواقب.
ولا نذيع سراً، إذا قلنا أن السفير الأميركي ديفيد هيل، خرج عن بروتوكول زيارات الوداع، وطلب في مطلع الأسبوع الماضي، سلسلة مواعيد عاجلة مع قيادات سياسية كبيرة، من بينها عون شخصياً، ليبلغهم رسالة واضحة ومقتضبة من واشنطن: لا تترددوا في التمديد للقيادات العسكرية، في حال فشلتم في تحقيق التوافق المنشود على المرشحين الجدد، لأن الأوضاع الراهنة لا تسمح بوقوع إرباكات وحساسيات طائفية، قد تُعرّض الاستقرار للخطر!
جرت أكثر من محاولة للوصول إلى صيغة توافق حول التعيينات الأمنية، وقام وزير الدفاع سمير مقبل بجولة مشاورات مع الأطراف السياسية المعنية، بما فيها زيارته الأخيرة إلى الرابية، ولكن العناد العوني أفشل كل المحاولات.
طَرَح وزير الدفاع بضعة أسماء لقيادة الجيش، وبينها اسم مرشّح العماد عون، العميد شامل روكز، الذي يتمتع باحترام معظم الأطراف السياسية، على خلفية مناقبيته وأدائه العسكري المميز، ولكن التوافق، الذي ينادي به عون، تحت شعار الشراكة مع الآخر، لم يحصل، ولم يحظ أي من المرشحين بالإجماع المنشود، فكان لا بدّ من اللجوء إلى التمديد، وتجرّع هذه الكأس المرّة!
وعوض التسليم بأصول اللعبة الديمقراطية، واحترام هذا الإجماع الداخلي والخارجي على ضرورة الحفاظ على الاستقرار الحالي، وعدم تعريض المؤسسات الأمنية لأية اهتزازات إدارة أو لوجستية، أعلن عون «حرباً» جديدة تحت عنوان «الدفاع عن حقوق المسيحيين»، يخشى الكثير من المسيحيين أنفسهم أن تتطوّر إلى معركة على طريقة: أنا.. أو لا جمهورية.. ولا لبنان!!