المعروف عن اللبنانيين أنّهم يتحدّثون كثيراً ولا يستمعون أبداً لبعضهم البعض، لأنّهم جميعاً أدمنوا منذ عقود طويلة على الاستماع الى السفارات ومكاتب المخابرات على أشكالها وأنواعها، القريبة والبعيدة والمحلية. وقد تعوّد اللبنانيّون على تحويل أمنياتهم الى معلومات، وكلّ تحليلاتهم تدور حول كيف أنّ العالم بأسره يتحرّك على أساس مصلحة هذا الفريق اللبناني أو ذاك. وأصبح من الطبيعي أن يقول أحدهم أنّه ينتظر معركة حلب، وآخر ينتظر ما يدور في اليمن، وهناك من ينتظر العراق وآخر يعتقد أنّ الأمور مؤجلة لما بعد الانتخابات الأميركية.
لا داعي للنكران فكلنا ذهبنا الى السفارات ومكاتب المخابرات، خصوصاً أيّام كان فيها لبنان مسرحاً لعمليات إقليمية ودولية وعلى حساب لبنان، وحيث قدّمنا فيها جميعاً مصلحة الآخرين على مصلحة لبنان. وكلّ من كانت لديه أوهام أنّه قادر على تقديم المصلحة الوطنية على مصالح المخابرات والسفارات كان مصيره الاغتيال، ولا داعي لنكء الجراح لأنّ اللائحة تطول منذ الاستقلال حتى الآن.
لا أعتقد أنّ الأجيال اللبنانية القادمة ستعرف كلّ هذه المآثر عن قادة ونخب لبنان على مدى عقود طوال إذ أنّها ستبقى مغلّفة بمصلحة الطوائف العليا التي تبرّر لأصحابها خيانة لبنان. لا أعتقد أنّنا نملك الجرأة أو الذاكرة لتوثيق هذه التجارب المؤسفة من تاريخنا الذي لم يكتبه أحد، ولن يكتبه أحد بسبب هذه السقطات المذلّة للمجموعات المكوِّنة للتجربة الوطنية اللبنانيّة.
تكاد تكون خيانة المصلحة الوطنية هي الجامع الوطني الوحيد لكلّ المكوّنات اللبنانية، أي أنّ الذي يجمعنا دائماً هو تلك السقطات المذلّة والانتهاكات، ممّا جعلنا نحبّ قول السيد المسيح عليه السلام «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر»، وسيّان ما بين خطايا الأفراد الذاتية وخطاياهم بحقّ الأوطان.
بعد هذه المقدّمة المشرّفة عن تجربتنا الوطنية، فهناك في لبنان من يتابع على المستوى الإقليمي تطوّرات التقارب الروسي- التركي- الايراني ممّا يوحي بدخول الأزمة السورية الى ما يشبه المرحلة الانتقالية بإدارة جديدة للأزمة. وهناك من يتابع العراق والحديث قد بدأ عن مرحلة ما بعد الموصل، وهذا أيضاً يؤشّر الى مرحلة جديدة تشبه احتلال العراق ٢٠٠٣ مع خارطة بريمر والأقاليم الثلاثة. أمّا بالنسبة للذين يربطون الحلّ في لبنان باليمن، فالحديث بعد اجتماعات جدّة مع الملك سلمان والوزير كيري ثم مع وزراء خارجية مجلس التعاون والوزير البريطاني، فالأمور ربّما تكون قد وجدت طريقها الى الحلّ عبر آلية تدخّل طرف ثالث يودعه الحوثيّون السلاح الثقيل مقابل حكومة وحدة وطنية، وهناك من يعتبر ذلك مؤشّراً للبدء بالحديث عن الوضع في لبنان.
كلّ هذه الأمور التي تحدّثنا عنها هي في صلب الحسابات اللبنانية لدى هذا الفريق أو ذاك. ولكنّ المؤسف هو أنّ الجميع نسوا أنّ لبنان ومنذ حرب فلسطين 48 هو في صلب الصراع مع إسرائيل، وعلينا دائماً أن نأخذ ذلك في الحسبان، خصوصاً أنّ اسرائيل هي الأكثر تأثيراً في الانتخابات الأميركية ويتبارى المرشّحون الأميركيّون على استرضائها. هذا بالاضافة الى ارتباط المراحل الانتقالية في المنطقة بعملية السلام، وهنا يأتي دور فرنسا والفاتيكان.
وأعتقد أننا الآن فهمنا لماذا قال الرئيس شارل الحلو للإعلاميّين اللبنانيّين «أرحّب بكم في وطنكم الثاني لبنان».