ما ان طلب المدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم الاستماع الى الوزيرين جمال الجرّاح ومحمد شقير والوزير السابق بطرس حرب في ملف الاتصالات، حتى اتخذ هذا الاستدعاء على الفور طابعاً سياسياً، بعدما أدرجه الجرّاح وشقير ومن يمثلان في خانة تصفية الحسابات.. فما هي حقيقة الأمر؟
تحوّل ملف الاتصالات منذ سنوات مادة تجاذب سياسي، خصوصاً بين «التيار الوطني الحر» و«تيار المستقبل» اللذين تعاقبا على إدارته في معظم الأحيان خلال الأعوام الماضية، مع تسجيل مرور للوزير بطرس حرب في عهد الرئيس ميشال سليمان.
ولعلّ «دسامة» هذا القطاع الذي أصبح يشكل رافداً أساسياً للخزينة، في ظلّ التصحّر الذي يصيب الدولة، فاقمت من «الإقبال» السياسي عليه وزادت من حساسيته، بحيث اصبح إحدى ساحات النزاع على النفوذ والاحجام بين القوى الداخلية الأساسية.
ومع تراكم المؤشرات الى حصول مخالفات وارتكابات في الوزارة، خلال مراحل عدّة، وضعت لجنة الإعلام والاتصالات النيابية برئاسة النائب حسن فضل الله سابقاً، ثم النائب حسين الحاج حسن حالياً، يدها على مكامن الخلل والشبهات، لتتوصل اللجنة أخيراً بعد التدقيق والتشريح، الى اقتناع بضرورة تشكيل لجنة تحقيق برلمانية، تتولى كشف الحقائق الكاملة وتحديد المسؤوليات.
وعلى وقع عمل اللجنة و«أزيز» الاتهامات بهدر المال العام، قرّر القاضي علي ابراهيم الاستماع الى إفادات أو شهادات الوزراء الجراح وشقير وحرب، حتى يستكمل تجميع أجزاء الصورة ويبني على الشيء مقتضاه. لكن سرعان ما أفلتت هذه القضية من إطارها التقني – الإجرائي المفترض، لتكتسب بـ«الفطرة اللبنانية» بُعداً سياسياً وحتى مذهبياً، ما أدّى الى تعقيدها والزجّ بها في متاهات الدهاليز الداخلية، حيث الداخل اليها مفقود والخارج منها مولود.
وحده حرب استجاب دعوة ابراهيم، بينما رفض الجرّاح وشقير علناً الحضور الى مكتبه سواء لـ«شرب القهوة أو الشاي». لم يحتج المدّعي العام المالي الى وقت طويل حتى يكتشف أن «الرقم المطلوب خارج الخدمة» بسبب ضعف «التغطية السياسية»، بعدما تعامل الوزيران المعنيان و«مرجعهما الحاضن» مع الطلب القضائي على أساس أنه يضمر استهدافاً سياسياً، لكن مموّهاً بقناع قانوني.
والمفارقة، أنّ وزيراً سابقاً في «التيار الوطني الحر» أكد في مجلس خاص أنه لو طلب منه القاضي ابراهيم الاستماع اليه في قضية تخصّ الحقيبة التي سبق له ان تولّاها، فإنه لم يكن ليتجاوب معه، بل كان سيدعوه الى زيارته في مكتبه إذا أراد أن يستفسر عن أيّ شيء، معتبراً أنّ هناك أصولاً يجب ان تُراعى في هذا المجال.
ويضيف الوزير البرتقالي السابق: أنا واثق في ان الجرّاح وشقير يتحملان المسؤولية عن مخالفات وارتكابات محددة في الاتصالات، ويجب أن يخضعا بالتأكيد للمساءلة والمحاسبة، لكن آلية استدعائهما الى القضاء بهذه الطريقة ليست موفّقة.
وتعتبر مصادر سياسية معترضة على الآلية التي اتبعها القاضي ابراهيم انها تنطوي على الإشكاليات الآتية:
– إعطاء البعض فرصة لإضفاء طابع الاصطفاف المذهبي – السياسي على المشهد، عبر الإيحاء بأن القاضي الشيعي القريب من حركة «أمل» و«حزب الله» يريد الاقتصاص من وزيرين سنيين محسوبين على «تيار المستقبل»، الامر الذي ينسف إمكانية المحاسبة.
– الوقوع في شبهة تسييس الادارة القضائية للملف، ما من شأنه سواء أكان مقصوداً ام لا، حماية الوزراء المرتكبين وعرقلة المواجهة مع منظومة الفساد التي تتبادل أطرافها الحمايات والمظلات.
– احتمال التضارب مع مهمة لجنة التحقيق البرلمانية المفترضة، وربما الإضرار بها، لأنّ استدعاء القضاء للوزراء الجرّاح وشقير وحرب في هذا التوقيت تحديداً قد يسمح للمتضررين من عمل لجنة التحقيق بتعطيل وظيفتها، على قاعدة انّ الملف موجود في عهدة القضاء ويجب انتظار ما سينتهي اليه.
– التحقيق من فوق الى تحت ليس مناسباً في مثل هذه القضايا، بل الأفضل هو البدء من الموظفين الأقل رتبة، وبعد اكتمال الوقائع تتمّ مواجهة الوزراء بها.
في المقابل، يؤكّد المتحمسون للإجراء الذي اتخذه ابراهيم انه أتى في مكانه، ويُحسب له لا عليه، للأسباب الآتية:
– إنّ الملف المحكم الذي توصلت اليه لجنة الاتصالات النيابية يُحتّم على القاضي ابراهيم التحرك، ولو لم يفعل ذلك لكان مقصراً، وبالتالي لا حسابات سياسية وراء طلبه الاستماع الى الوزراء المعنيين، بل وقائع موضوعية وتقنية تجمعت بعد نقاشات اللجنة مع شركتي الاتصالات.
– ليس صحيحاً ان جهات سياسية حرّضت ابراهيم على استدعاء الوزراء، والدليل ان الجرّاح كشف ان الرئيس نبيه برّي دعاه عندما كان نائباً الى عدم المثول أمام ابراهيم، قبل ان يسلك طلبه الأقنية المطلوبة عبر مجلس النواب، ما ينسف نظرية أنّ هناك استهدافاً شيعياً، بغلاف قضائي، للوزيرين الجرّاح وشقير.
– إنّ مجريات التحقيق والتدقيق هي التي تحدّد وجهة ابراهيم، وبالتالي كان من الممكن ان يستدعي وزراء آخرين من لون سياسي مختلف، لو شعر بعد الاستماع الى الجرّاح وشقير بأن هناك ضرورة لذلك، خلافاً لاتهامه بالاستنسابية والانتقائية في اختيار الملفات ورموزها.
– لا توجد أحكام معلّبة لدى القضاء، والاستماع الى وزير لا يعني الإدانة المسبقة له، وانما المقصود هو الاطلاع منه على ما يملكه من معلومات قد تفيد في تظهير الحقائق، ولعلّ نمط تعامل ابراهيم مع الوزير السابق بطرس حرب يثبت هذا المنحى، وفق ما أكده حرب نفسه بعد إدلائه بما لديه.
– توجيه رسالة إيجابية إلى الخارج والداخل حول جدية القضاء في الإصلاح ومكافحة الفساد، بينما سلبية الوزيرين تنعكس مردوداً عكسياً على صدقيّة الدولة.