تحوّل صندوق النقد الدولي لاعباً اضافياً على الساحة اللبنانية، وهو يكاد يصبح جزءاً من تجاذباتها واصطفافاتها، على وقع المواقف التي تصدر عنه.
من المفارقات التي يتوقف عندها مواكبون لهذا الملف، انّ بعض مستشاري الحكومة وصندوق النقد يتموضعان، حتى الآن في خندق واحد، دفاعاً عن تصورهما المشترك لحجم الخسائر المالية اللاحقة بلبنان في مواجهة مقاربات جديدة تؤدي إلى تخفيضها، فيما كان هناك افتراض لدى البعض، بأنّ إحدى أولويات الحكومة هي توحيد صفوف الوفد المفاوض لتحصين موقعه، وبالتالي تعزيز قدرته على تحسين الشروط التي سيطرحها الصندوق، بحيث تصبح أكثر واقعية وملاءمة للإمكانيات اللبنانية.
وهناك من يلفت الى انّ الموقف الاخير للصندوق، عبر نائب مدير دائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ثانوس ارفانيتيس، أتى ليعكس تناقضاً بين اعتباره من جهة أنّ أرقام الحكومة هي الأقرب لرؤيته – علماً أنّه وافق على تغيير رقمين من أصل أربعة في وقت سابق – مبدياً قلقه حيال «محاولات لبنان تقديم خسائر أقل لأزمته المالية»، وبين دعوته من جهة اخرى الى «التوافق حول خطة الانقاذ المالي الحكومية، مع الاستعداد لتحسينها اذا قضت الحاجة».
ولئن كان البعض يجد في هذا الطرح تأكيداً لصوابية خطة الحكومة وشفافية ارقامها بعيداً من عمليات التجميل التي تهدف الى تغيير وجه الحقيقة والتهرّب من المسؤوليات، الاّ إنّ اوساطاً قريبة من دائرة المفاوضات مع صندوق النقد لا تخفي في المقابل استغرابها لمقاربته الإفلاسية، «مدعوماً من الحكومة التي يبدو أنّها رهينة سلوك مستشاريها ونصائحهم».
وتلفت تلك الاوساط، إلى انّ تدخّل الصندوق المتجدّد اندرج في إطار تحفيز حكومة الرئيس حسان دياب على التمسّك بأرقامها السابقة بعد جهد كبير بذلته لجنة المال للتقريب بين مقاربات الحكومة والمصارف والبنك المركزي، وتوحيد موقف الوفد اللبناني المفاوض.
َوتشير مصادر في لجنة المال، الى انّ تخفيض الخسائر الذي توصلت اليه اللجنة عقب تشريح دقيق، هو تخفيض حقيقي وليس تلاعباً كما يوحي بعض المستشارين خلال تواصلهم مع صندوق النقد لتحفيزه على الوقوف الى جانبهم، كاشفة عن معلومات تفيد بأنّ بعض هؤلاء عملوا لدى رئيسي الجمهورية والحكومة سعياً الى اجهاض نتائج عمل لجنة المال والترويج بأنّها تدفع في اتجاه «تهشيل» الصندوق.
وتشدّد المصادر، على أنّ اهم ما فعلته اللجنة تمكنها من إيجاد خط ثالث بين خطي الحكومة والقطاع المصرفي، اللذين يحاول كل منهما التفلّت من مسؤوليته عن الخسائر والقاءها على الآخر او على الناس. موضحة انّ «لجنة المال اعتمدت خيار تغيير المقاربات التي تؤدي حكماً الى تصحيح الأرقام بموافقة المرجعيات الرقابية النقدية المختصة، وتوزيع الخسائر والأعباء بطريقة عادلة على الدولة ومصرف لبنان والمصارف باستثناء المودعين، على قاعدة حماية حقوق اللبنانيين في المصارف وعدم السماح باستعمالها في اي حل».
ويقول رئيس اللجنة النائب ابراهيم كنعان لـ»الجمهورية»، انّ «الحكومة بذلت جهداً كبيراً لتحديد الخسائر واقتراح المعالجات، ونحن نتمسك معها بخيار صندوق النقد، لكنها واقعة في أسر التجاذبات السياسية والشخصية للبعض، ما يمنعها من الإقرار بالواقع، نتيجة عيب في المقاربات لا ضير بتاتاً في تصحيحها بل العكس هو الصحيح».
ويضيف: «لو انني محل الحكومة لكنت قد صفّقت للمجلس النيابي على دوره الرقابي، واستندت الى الخلاصات التي توصلت اليها لجنة المال لتوحيد الموقف اللبناني في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ودفعه الى ملاقاتنا في منتصف الطريق».
ويشير كنعان الى انّه لا يجوز للحكومة ان تكتفي بنيل رضى صندوق النقد، «بل من واجبها ان تربح أيضاً الى جانبها مجلس النواب الذي من دونه لا يكتسب الاتفاق المفترض مع الصندوق اي شرعية. ذلك انّ الحكومة، تحتاج في نهاية المطاف إلى موافقة المجلس على القرض المالي الذي ستحصل عليه، إذا نجحت المفاوضات».
ويلفت الى انّ الحكومة معنية بأن تأخذ في الحسبان الخلاصات التي توصلت اليها لجنة المال «بعد عمل دؤوب وعلمي، لا يرمي سوى إلى حماية حقوق المودعين بمعزل عن حسابات الحكومة ومصالح البنك المركزي والمصارف»، مؤكّداً أنّ «توحيد الموقف ولو حول الخطأ، هو أفضل بكثير من الانقسام، فكيف اذا كان موحّداً حول الصواب المرتكز على قراءة موضوعية للخطة».
ويتابع كنعان: «ما يدعو الى العجب هو الإصرار على الذهاب إلى التفاوض مع الصندوق من دون موقف موحّد، بدل ان تستعمل الحكومة طروحات المجلس النيابي كأوراق قوة لتحسين موقعها التفاوضي، حتى ولو كانت غير مقتنعة بها».
ويرى كنعان انّه لا «يصح ان نحاور صندوق النقد مستسلمين او كأننا نحن محكومون بالإعدام سلفاً، كذلك لا يجوز ان نستمر في التجاذب الداخلي بينما يتطلب الوضع تضامن الجميع لإنقاذ بلدنا».
ويشدّد على أنّ «همّنا الأساسي يتمثل في حماية المودع والاقتصاد، لا أن تشكّل أي خطة خطراً عليهما، كأن نذهب نحو خيار إشهار الإفلاس الذي يعني عملياً إطفاء كل مولدات الاقتصاد والإنتاج والبدء من الصفر بل من تحت الصفر، مع ما يرتبه ذلك من صعوبات امام فرص النهوض مجدداً في اقصر وقت ممكن». ويشير الى انّ ليس من الحكمة ان تتعامل الحكومة مع الدين حتى عام 2043 على اساس انّه خسارة ويستحق على الدولة اليوم، الأمر الذي يتناقض مع ما ورد في خطتها من امكانية للنهوض بدءاً من العام 2024»، موضحاً انّ المطلوب هو اعتماد مقاربة تعثر لا افلاس.