Site icon IMLebanon

ابراهيم نجار: “القوات” مقاومة وبشير “نرفوز”… وحياتي أشبه بفيلم سينمائي طويل

 

“أُحبّ الزمهرير والعواصف ونجحت في تخليص نفسي”…

إذا كان جبران خليل جبران قال: «لا تختَرْ نصف حل، لا تقف في منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل»، فإن ابراهيم نجار إعتنق في حياته كل ذلك حتى أصبح ما أصبح. حياته لا تشبه سواها. شتاؤه كان طويلاً لهذا أحب دائماً الزمهرير والعواصف والرعد والبرق والزوابع والأعاصير والبحر الهائج. هو شيء من كل شيء. تتناقض فيه المشاعر حيناً لكنها لا تلبث دائماً أن تتضح. هذا سرّ من أسراره. هو البروفسور في القانون وابن حزب الكتائب والأستاذ الجامعي والوزير والأب والزوج… ووحدها صورة الإبن التي كان عليها بقيت زمناً مضطربة إلى أن قرر البوح بها. إبراهيم نجار في حوار مثل الشتاء الذي يُحبّ «قضى فيه على السكون وفجّر ما هو راقد». هو حوارٌ فيه حبّ بقدر ما فيه ألم.

 

إنه البروفسور صاحب الصوت الهادر بالحقّ. إنه الإنسان الذي تأرجح بين الخيار والقدر. عاش بلا كنية حقيقية حتى سنّ المراهقة. سمّوه ابراهيم يزبك (بكنية والدته). طفولة مضطربة. طفل ضائع ومراهق ثائر لكن، في يوم ما، في لحظة ما، أخذ القرار: أكون أو لا أكون. وكان… حياته كما الفيلم السينمائي، فيها مطبات وفيها ألم وفيها تحدٍ وفيها وضوح. ابراهيم نجار، ابن فدوى يزبك وألبير نجار، بنى نفسه بنفسه. قصته رواية حقيقية بدأت يوم ولد صباح الثلاثاء 2 أيلول عام 1941… فماذا في تفاصيلها؟ يجيب: «منذ ولدت كان والدي ووالدتي على خلاف. والدي ماروني (أصبح لاحقا أرثوذكسياً) ووالدتي أرثوذكسية. لم أعرف بيت والدي لكني عرفت لاحقاً أنه خلال دعوى الطلاق أغرم بفتاة أخرى وتزوجها ورزق أولاداً. كان ألبير (والده) جميل الطلعة متين البنية تخرّج متفوقاً من كلية الطب الفرنسية والتحق بالجيش اللبناني ضابطاً. فدوى، الوالدة، تزوجت لاحقاً من بشارة طرزي، الذي توفي على يدي إبراهيم نجار بسكتة قلبية. شخر بين يديه. وابراهيم – على ما تذكر- لم يكن يملك سريراً في بيت امه «كنت أنام على الدشك».

 

نسأله عن جذوره الجغرافية فيجيب: «من لبنان، من كل لبنان». فهو ترعرع في طرابلس لكن نفوس والده من زحلة المعلقة وهناك من يقول إنها من بسكنتا. لا يهم. أصبح للرجل صيت جميل بحجم لبنان. دروسه الإبتدائية كانت عند الراهبات اللعازاريات في طرابلس ومنها انتقل الى مدرسة أرثوذكسية في محلة الميناء، مطلة على البحر، هي مدرسة مار الياس ويقول: «ابراهيم يزبك هو الإسم الذي حملته ونوديت به سنوات طويلة، كأنني لم أعطَ إسماً حقيقياً شأن كل الأولاد منذ ولادتهم. في بيت جدي، والد والدتي، أديب يزبك عرفت باسم ابراهيم يزبك. وبهذا الإسم صدرت كل الأوراق والسجلات والإفادات المدرسية. ولاحقاً، أول إخراج قيد عائلي لوالدي ألبير نجار يذكر إسمي حللت في المرتبة الخامسة كما لو كنت خامس مولود له لا الأول. وأول مرة استعملت كنية نجار كانت يوم تقدمت لشهادة البكالوريا القسم الأول».

 

الشاب المكافح

 

إثنان وثمانون عاماً مرّت. نظر خلالها إبراهيم نجار مراراً الى الوراء فرأى أن أهل أمه إحتضنوه وربوه وأرسلوه الى المدرسة لكنه لم يعش يوماً تحت جناحي والديه «كنت اشبه بالطفل «العياري» (من إعارة). وضعوني ستة أعوام في مدرسة داخلية في مار يوسف عينطورة. كنت أرى والدتي مرة، ربع ساعة، كل ثلاثة أسابيع. وأذهب الى البيت مرة كل ثلاثة أشهر. كانت المدرسة أشبه بنظام عسكري. تعذبت. وذات يوم أخبروني أنني سأعيد صفي (الأول ثانوي) فغضبت كثيراً. كان رأسي مقفلاّ. كان لدي غضب جامح وكنت منكمشاً على نفسي ولم يكن لدي أب وأم أستند إليهما. هويتي كانت ضائعة. هربت. صعدت في شاحنة، ثم في شاحنة أخرى، حتى وصلت الى طرابلس. وقلت لأهل والدتي: لا أريد العودة الى عينطورة. ومنذ تلك اللحظة ولدت. بدأت أكون أنا. بدأت أنجح. تفوقت. بدأت أستيقظ عند الرابعة فجراً لأقرأ وأدرس. تعلمت لوحدي». يتحدث البروفسور عن هذه المحطة وكأنها تحدث الآن. يأخذ نفساً عميقاً مرات وهو يتحدث. يطبش يده على الطاولة معلناً أخذ الخيار. وعن تلك المرحلة – وسواها – كتب: «الخيار والقدر».

 

كتائبيٌ هو لكن متقاعد منذ العام 1990. اختار الإبتعاد يوم رأى الجمهورية تنهار. لكن، أليس الإبتعاد إنسحاباً والإنسحاب إستسلاماً؟ يجيب: «قررتُ أن أقاوم بطريقتي من خلال القلم» ويستطرد: «حصلت حرب العراق – إيران. ربحت العراق الحرب. وأصبح صدام حسين البطل والقدوة للبلاد العربية. الجميع مع صدام ضد حافظ الأسد. تقرّب من مسيحيي الشرق الأوسط فقصدناه وعدنا من هناك بالسلاح. أصبح صدام بطل الأمة العربية. واعتقد ميشال عون أن بإمكانه الإتكال عليه وعلى السلاح الذي أرسلناه نحن الكتائب، وداني شمعون، إليه. يومها قرر عون القيام بحرب تحرير ضد سوريا، ونحن كنا ضد سوريا لكننا كنا نفهم أنه لن يستطيع تحقيق شيء في حرب مجانية. أتذكر أننا إلتقينا مكارثي (جون مكارثي السفير الأميركي في بيروت آنذاك) في اليرزة – وكان معنا بطرس حرب وجورج سعاده – وقال بما معناه: أخبروا ميشال عون أنه لن يربح الحرب. قصف عون السوريين وحين انتهى الى لاشيء أدار مدافعه في اتجاه الكتائب والقوات. أوّل قذيفة نزلت في الأشرفيه أصابت منزلي. إحتلّت جماعة عون بيت الكتائب في بعبدا. وبعدما كنا نساعد الجيش جعل من الجيش خصماً لنا بحجة أن القوات والكتائب يجبون الضرائب. دمّر لبنان ودمّر المسيحيين. وهذا ما جعلني أبتعد من دون أن أتنازل عن المقاومة بالفكر والقلم».

 

مع جعجع

ماذا عن علاقته بسمير جعجع وهو الذي مثّل القوات وزيرا للعدل في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بين عامي 2008 و2011؟ يجيب: «أنا كنت حاضراً في بيت يوسف الضاهر في طرابلس يوم أقسم سمير جعجع اليمين الكتائبي وكان بعمر 13 عاما. كان الضاهر يعتبره مثل إبنه. وتعرفت على سمير أكثر يوم حرب تحرير الكورة. كان في القوى المسلحة النظامية وأنا رئيس إقليم الكورة. وفي العام 1990 إحتاج إليّ في مسألة عائلية فقدمت المساعدة على مدى عشرين عاما. توطدت الثقة والودّ بيننا. وفي العام 2005 زارتني ستريدا جعجع وطرحت عليّ أن اكون وزيراً في حكومة فؤاد السنيورة. أخذت نبذة عني ومرّت الايام. وفي العام 2008 طرحت القوات إسمي وزيراً للعدل».

 

لماذا وزيراً للعدل؟ هل طلبت منه القوات اشياء؟ يجيب: طلبت مني خدمات بسيطة، مثلما طلب نبيه بري ووليد جنبلاط. ويستطرد: كانت أمامي ملفات كبيرة. وتعرضت في العام 2008 الى حادث بسبب تلك الملفات. لم أكتب عن ذلك. الأشياء التي ما زالت تؤلمني لم أكتبها. عملتُ قناعاتي ولم أخف من احد. من يشتغل حسب ضميره ووجدانه وحسب الكتاب الذي نهل منه لا احد يؤثر عليه».

 

ماذا عن حيثيات المحكمة الدولية… يقاطع بالقول: «تمخض الجبل فولد فأراً».

يتحدث البروفسور، الذي تكاد لا تغيب الإبتسامة الراقية عن وجهه عن «الظلم الذي تعرّض له سمير تحت سابع أرض» ويقول: A la guerre comme à la guerre . هناك أشياء تحصل في الحرب ولا تحصل في السلم. القوات اللبنانية دفعت ذنوب الجميع. وخرجت من الحرب ملتصقة بالدولة والقانون. لا تريد القوات الحرب الأهلية. تريد إحترام الشرعية. ترفض التقسيم. تطالب بتطبيق القانون. جارتني القوات بقضايا كثيرة بينها قضايا العنف الأسري والتشكيلات القضائية وسواها. ووزراؤها ونوابها لم يدخلوا في أوساخ الملفات المالية. القوات اللبنانية حزب مقاوم. إنها تملك عصباً. إتّضح لي أنها موجودة in case you are in danger. وأتذكر شعار رفعته الكتائب عام 1958 يوم ترأس بيار الجميل، الماروني، لائحة في بيروت. قرأت على الجدران يومها: إذا كان الخطر يهدد لبنان بمن تفكر أولاً؟ إذا سألتم لبنان أتى الجواب: الكتائب اللبنانية. لا أنسى ذلك. والقوات مثل الكتائب من رحم واحد».

 

تجارب في كتب

 

أنجز البروفسور الكبير أخيراً ثلاثة كتب باللغة العربية ويقول «حين تقاعدت من الجامعة اليسوعية التي علّمت فيها القانون طوال خمسين عاماً إخترت قلب الصفحة وقلت لنفسي إنتهت أيام البحث والتنقيب ومتابعة المواضيع العلمية وآن أوان أن أكتب لنفسي فأتت الحصيلة ثلاثة كتب وجمعت كتاباً رابعاً من مقالات سبق وكتبتها. مثلت الكتب محطات في حياتي. أول كتاب عنونته: «في وزارة العدل» نقلت فيه تجربتي فيها، ما هو جيد وما هو غير جيد، لكني كنت حريصاً على عدم توريط الآخرين أو إيذاء سمعتهم. صدر الكتاب لكن عائلتي إرتأت عدم وضعه في المكتبات خوفاً من الإنتقادات. طبعته وأختار من أعطيهم إياه. هو سهل القراءة وعبرت فيه عن مدى سعادتي حين مارست سلطة وزير العدل ثلاث سنوات».

 

لكن، أليست كتابة التجربة تبقى ناقصة إذا لم تضم كل شيء وتعلن؟ يجيب: «ضمّ الكتاب تقريباً كل شيء باستثناء من حاولوا أن «يبرطلوني» ومن كذبوا علي ومن طلبوا مني ما لا ولن أقبل به ومن حاولوا التأثير علي سياسياً وطائفياً. في تجربتي التعليمية لم يأت يوم اي كاهن يسوعي ليقول لي: إفعل هذا ولا تفعل ذاك. في الوزارة أتى من يفعل للأسف ذلك. أمليت الكتاب على رئيسة ديواني في وزارة العدل. فيه كثير من العذاب فليس أصعب من أن يكتب الإنسان عن تجربته. هو قدري – والقدر هو رزمتنا المتكاملة التي تحدد مسارنا في حياتنا ومماتنا. تمّ إختياري ربما لأسباب شخصية لكي أتبوأ وزارة العدل مرة أولى ثم مرة ثانية على التوالي. كتبت كي لا أنسى. علمتني الخبرة أن الوقت الذي يمر هو غدار، لأن الذاكرة هي بطبيعتها إنتقائية. كان أستاذي في الفلسفة ميشال ريبون يردد علينا: لا ننسى إلا ما نريد أن ننساه».

 

هل نفهم من ذلك أن التذكر عذاب؟ يجيب «حياتنا ليست سهلة. إنها ليست نهراً طويلاً مياهه راكدة بل عواصف وهيجان. ويوم إنهارت القوى المسيحية في لبنان عام 1990 وسقطت الامبراطورية اللبنانية والأرجحية المسيحية أرسلت وراء نقولا ناصيف (الصحافي). هو صديقي وربيته على يدي أول صعوده. كان يأتي الى المكتب السياسي متسقطاً الأخبار. قلت له أريد أن أسجل أحداثاً. سجلناها على كاسيت 54 حلقة. أفرغ محتواها وحين قرأتها وجدت أن هذا ليس اسلوبي. لا أحب الفاعل والمفعول به. أسلوبي بسيط. وضعته جانباً. وحين أتت كورونا أخرجته من الدرج وكتبته بأسلوبي وسميته: الخيار والقدر. هو تأريخ دقيق لكل ما عشته منذ بداياتي حتى العام 1990 مع بعض التأملات مثل فيلم سينمائي».

 

كم لعب القدر دوره في حياته؟ يجيب «لولا القدر لما فعلت ما فعلت. كل ما انجزته وليد الصدف أو أشياء خطيرة أو ربما تافهة. لكن لم أكن فيها مخيراً. كتبت ما كتبت بعذاب. خرج من أحشائي مثلما تلد المرأة جنينها. كتبته بصيغة الأنا التي ما احببتها سابقاً. لا وجود لكلمة أنا في القانون. كتبت قانون فرنسا أكثر مما كتبت القانون في لبنان بكثير. كل المراجع الفرنسية إستندت الى كتاباتي ولي فيها آلاف الصفحات. قلت لنفسي: وصلت الى عمر يحق لي أن أتكلم عن نفسي». كتابي الثالث باللغة العربية حمل عنوان: في قصر العدل. هو تقني للمحامين.

عبء السلاح

يسرد إبراهيم نجار من الذاكرة مفاصل كثيرة. يقول «يوم أمسك حزب الله لبنان بخوانيقه شعر العالم بصعوبة تجاوز ذلك. شعروا بعبء عامل السلاح وفائض القوة وبدأوا يتحدثون عن فيدرالية ولامركزية وحتى عن تقسيم. وهذا ذكرني بالفترة بين عامي 1975 و1977. كنت أكتب في صحيفة العمل وأشارك في أعمال المؤتمر الدائم للرهبانية اللبنانية في الكسليك لدرجة أننا قطعنا الأمل من لبنان. وأتذكر أن الصحافيين الأجانب بدأوا يسألون ما إذا كانت جونيه ستكون عاصمة لبنان الجديد. كان حسين القوتلي في دار الإفتاء في بيروت يهجو المسيحيين. يومها كان إتفاق القاهرة أما اليوم فهناك سيمفونية جيش وشعب ومقاومة. يومها كان الفلسطينيون يمتلكون السلاح مع الأحزاب التقدمية ويملكون الدعم العربي والدولي وجيشاً جراراً ووصلوا الى تخوم بكفيا وكادوا يأتون برئيس للجمهورية. كمال جنبلاط كان يريد أن يصبح رئيساً للجمهورية. الى أن دخل السوريون وساعدونا بمباركة أميركية. أفهم الآن أن ما نعيشه يشبه ما عشناه مع الفلسطينيين. فجمعت كتاباتي آنذاك في كتاب سميته «الأمس واليوم» وكتب مقدمته نبيل بو منصف. إخترته لأنه يفكر مثلي وشفاف وجريء. الكتاب لم يصدر بعد».

 

يعترض إبراهيم نجار – او يخال الى قارئه أن يعترض – على الفيدرالية. فهل يعتبرها ليست حلاً وخياراً غير صائب؟ يجيب «كانت هناك موجبات في الماضي لا تزال موجودة نفسها وهناك أسباب أخرى تدفع بالبعض الى المطالبة بالفيدرالية. لم أقبل في الماضي بالفيدرالية لأنني لست في وارد القبول بأن يكون جزء من لبنان فلسطين بديلة، مثلاً أرفض اليوم أن يكون جز من لبنان غزة بديلة أو إيران بديلة. هذا ضد تراثنا وثقافتنا وانفتاحنا. نحن لسنا مجتمعاً متقوقعاً مغلقاً. الدنيا لا تسعنا. ولا أريد أن أغلق الباب على نفسي والعيش في غيتوات».

 

«حزبُ الله» يريد لبنان كلّه

لكن، من قال إن الفيدرالية إنغلاق؟ يجيب «دعيني أشرح. العنصر الفلسطيني لم يكن دائماً. كما أن بشير (بشير الجميل) الذي كان تلميذي وكان يثق بي وكتبت له برنامج الحكم بعدما كان يسمّ بدن والده حين يتكلم عن أن الصيغة ماتت ودفناها ولن تقوم من بين الأموات طالب بلبنان الـ 10452 كيلومتراً بعدما أصبح رئيساً. لا شيء يدوم في الحياة. عشنا فترات لم يكن إخواننا المسلمون يعترفون فيها بلبنان. الأرزة كانوا يسمونها قرنبيطة. حتى صائب سلام الذي أقدره وأحترمه لم يكن يعطي أهمية للنزعة الإستقلالية اللبنانية. كان المسلمون يريدون ضم لبنان الى سوريا لكن حين أصبح تحت حكم علوي بدلوا رأيهم. ولاحقاً أصبح المسلمون بفضل رفيق الحريري ينادون بلبنان اولاً. نحن اليوم نريد الديك وحق الديك، يعني نريد السلطة المركزية العادلة والفاعلة وفي نفس الوقت نريد ان تحكم المناطق نفسها بنفسها. أنا صاحب أول مشروع عرض في الكسليك عام 1975 إسمه: بعض الصيغ البديلة الذي توقف عنده شارل مالك والأباتي شربل قسيس. لا مانع أن يكون نظام لبنان مناطقياً لكنني ضد اللامركزية الدينية أو الطائفية. إذا حصل ذلك فماذا يمنع أن تشن طائفة حرب جهاد على سواها؟ أنا مع اللامركزية حتى أقصى حدودها شرط أن تكون إنمائية مناطقية لا مذهبية طائفية. لأنني كمسيحي أعتبر أن لبنان رسالة لا معنى له إذا كان مجتمعاً صغيراً لأن المجتمع الصغير لا يعيش وحده. إذا أقمنا فيدرالية سيأتي حزب الله ويحتلنا في اليوم الثاني. حزب الله يريد لبنان كله ويملك القدرات العسكرية. وإذا خيرت بين العيش الواحد المؤلم القائم على الحزازات والنكايات وبين الطلاق أفضل العيش الواحد. إذا قررنا وحدنا إقامة فيدرالية نخدم المشاريع الأخرى وما يريدونه من خلق غزة جديدة أو إيران جديدة. مشروعي كان مبنياً على فيدرالية تقوم فيها السلطة المركزية على ثلاثة أقانيم: جيش واحد وسياسة خارجية واحدة ومالية واحدة. وتكون بيروت مدينة مفتوحة. ما طرحته يحتاج الى تلاقي أطراف. لا أحد يرقص منفرداً. يجب أن يقبل الآخرون معنا. نريد الديك وحق الديك. نحن مثلما قال لي البطريرك مار نصرالله صفير: «كل حياتنا يا إبراهيم نعيش في خطر. العثمانيون حكمونا. الفرنسيون حكمونا. والسوريون حكمونا. كل عمرنا في هذا المسار لكننا فلاحون زرعنا الجبال لنبقى ونصمد». ويومها قلت له: كلنا موارنة في حبّ لبنان».

 

مليءٌ هذا الرجل بالتجارب والخبرات. ومليءٌ بالمشاعر والأحاسيس وبالأوجاع. هو مثل الشتاء المليء بالزوابع لكنه لا يلبث أن يتفتق عن شمس ونور. نسأله هنا: ماذا جذبك الى الكتائب؟ يجيب بالعودة الى المراحل المبكرة من حياته: «يوم كنت في عينطورة كنا نهرب ليلا وننزل الى بيروت لنأكل الفلافل على البرج ونشاهد الأفلام في سينما روكسي وسينما دنيا وسينما راديو سيتي وشهرزاد وكنا نقصد ملهى الباريزيانا. كان هناك رفاق سوء ورفاق جيدون. وأحد أصدقائي الجيدين كان كتائبياً يدعى جورج كساب. كنت غصناً مقطوعاً من شجرة بلا جزع فسعى الى بث الوعي في داخلي. نبهني. وعيت. ووثقت به كثيراً ولأنه كتائبي دخلت معه منظمة الشباب. تعرفت هناك على رفاق وأصبح الحزب كأب لي. حدث ذلك عام 1957».

 

هل تعرّف على الشيخ بيار الجميل في العمق؟ يجيب: «عرفته عن كثب. عرفته جيداً. لكنه كان يضع دائماً مسافة بينه وبين الآخرين ولا يحب أن يلتصق به أحد. كان يحوط به جوزف شادر وجورج سعاده وطانيوس سابا وعبدو صعب. كانوا مقربين منه وكانت هناك مسافة دائمة بينهم. كان الشيخ بيار يثق بي خصوصاً بعدما درست في فرنسا وبقيت رئيس مصلحة الطلاب. وحين رجعت الى لبنان، بعمر 24 عاماً، عينت بروفسورا في كلية الحقوق في اليسوعية. أراد الشيخ بيار إدخالي الى المكتب السياسي لضبّ من يعترضون. كان واجبي أن انقل الى المكتب السياسي إنطباعات الشباب وكنت أفعل ذلك لكن بطريقة لائقة. كان الشيخ بيار يهابني لأنني أمثل الضمير اليسوعي عند الكتائب. كان يقول ويردد علينا: أنا بيار الجميل الماروني اللبناني من بكفيا لا أرتاح إلا بغرفتي في بكفيا. وذات يوم ضربت على الطاولة وقلت له: شيخ بيار توقف عن الكلام عن المارونية. هناك حولك أشخاص آخرون بينهم شارل مالك وإيلي كرامي وبيار صايغ أليسوا لبنانيين؟ أنا أيام الكسليك من وضعت عبارة القوات اللبنانية والجبهة اللبنانية. كانوا يريدون أن تكون التسمية القوات المسيحية والجبهة المسيحية. قلت لهم: نحن نقوم بمعارك في سبيل لبنان لا الطائفة».

 

بشير كتلة نار

 

تعرّف على بشير عن كثب ويقول «كان تلميذي وأخذ 4 على 20 في القانون المدني (يضحك). لم يكن كسولاً لكن وقته كان ضيقاً. ويضيف بابتسامة: كان نمروداً في الخارج ووالده كان يغضب منه كثيراً. ولدت ثقة بيننا. وحين أقاموا المؤتمر الدولي لمساندة لبنان إختارني بشير لأشارك. وحين أصبح رئيساً طلب مني أن أكتب له برنامج الحكم. وأتذكر أنه كان مغرما بصولا (صولونج الجميل) لكن والده كان يعترض على ذلك. قال لي مراراً: قل لوالدي إنني احبها واريد الإرتباط بها. كان بشير ودوداً وذكياً ومرحاً و»نرفوزاً» وشجاعاً ومقداماً وكتلة نار. طلب أن نتعاون سويا لكنني قلت له: لا اريد أن اكون طرفاً بينك وبين والدك وشقيقك. وتعاونت معه على القطعة a la carte».

 

إبراهيم نجار، الصبي الذي تعذب في بداياته أصبح المحامي اللامع والرجل الذي يركن إليه الواثق من نفسه الذي دافع على مدى ستين عاماً عن حقوق الناس. هو رجل قانون من أبرز رجالات القانون ليس في لبنان وحسب بل على المستوى الدولي أيضا ويقول: «هذا كلفني أرقاً وسهراً وتمحيصاً في تفصيل التفصيل، لكني بعد أن إستكشفت الغابة القانونية قررت أن اعود الى «جواتي» (داخلي) ومشاعري ونفسيتي». عاد وكتب ما كتب عن تجاربه. هل نفهم من ذلك أنه قرر تخليص نفسه؟ يجيب: «نعم خلصت نفسي. الكتابة أشبه بعلاج نفسي. إنها إعتراف علني».

الصبي المقطوع من شجرة أصبح مليئاً بالأغصان المثمرة. لكن، ما الذي أخذه الى فرنسا؟ يجيب «حين انتهيت من دراسة الحقوق ذهبت الى مكتب إدمون رباط. دقيت على الباب وقدمت له نفسي. كانت لديه مكتبة هائلة ساعدتني على إنجاز دبلوم الدراسات العليا وحللت اول. وذات يوم إلتقيت بصديق قال لي: أنا ذاهب الى فرنسا. أجبته: وأنا أيضاً. لم يكن معي مالاً فباعت والدتي سيارة فولكسفاغن تملكها بـ 1800 ليرة واعطتني المبلغ وأخذت من خالي 500 ليرة. سافرتُ الى باريس وحين وصلت قلت بصوت عال: باريس يا أنا يا أنتِ». وهناك، في مدينة الأضواء باريس، كتب أطروحته وعنوانها: حقّ الخيار. أطروحة لم تكن كغيرها.

 

هو زوج ماري روز شمعون وأب لثلاثة: ناتالي، سيرج وسيريل وجد لثلاثة صبيان: إبراهيم ورافاييل وآرثر. صورتهم معه على غلاف هاتفه الخليوي. هو اليوم صاحب مؤسسة الثقافة والحرية التي يشارك فيها أكثر من أربعين شخصاً جميعهم من أصدقائه. إنها أشبه بملتقى ثقافي سياسي إقتصادي سياسي أسسها العام 2018. أصدقاؤه كثر. واهتماماته كثيرة. يقرأ كثيراً. وهو شغوف بالفنون ونهم في قراءة الشعر ويهوى جمع التحف الفنية art collector. اللوحات الرائعة في كل مكان وكلها – مثله – مليئة بالألوان والحياة. وفي مكتبته عشرات الكتب التي اشتراها بعمر 18 عاماً، من خرجيته المتواضعة، عن رسامين ومشاهير في عالم الفن. إنها أشبه «بدخيرة « تذكره بأيام القلة. وهو لا يزال يلعب التنس ويصيب. ورأس سقراط، على راس مكتبته دائماً وهو العاشق للثقافة والحضارة الإغريقية. أما سماع الموسيقى الكلاسيكية فهواه الآخر.

 

وينهي ابراهيم نجار بالقول: «جئت الى القانون صدفة، الفن لدي يوازي الحلم في حياتي. ما زلت احلم كل يوم. لا حياة من دون حلم . والقانون استحضار الحلم والفكر في لحظة متشنجة من أجل إرساء الأمان والصفاء».