وماذا الآن؟ هذا هو التساؤل الذي يطرحه الإيرانيون هذه الأيام في محاولة امتصاصهم صدمة الانتخابات الأخيرة التي دفعت برجل معمم آخر إلى مقعد رئاسة الجمهورية الإسلامية. وبخلاف أول رئيسين؛ اللذين لم تستمر رئاستهما إلا لفترة وجيزة للغاية على نحو لا يجعلها محل اهتمام، تعاقب على الجمهورية الإسلامية خمسة رؤساء.
ومن بين هؤلاء واحد فقط؛ محمود أحمدي نجاد، لم يُبد اهتماماً بارتداء الملابس التقليدية التي اعتاد نظراؤه الآخرون ارتداءها. ومن بين الأربعة الباقين، نجد اثنين؛ هاشمي رفسنجاني وحسن روحاني، ارتديا العمامة البيضاء التي تخص «العوام»، بينما ارتدى الاثنان الآخران؛ علي خامنئي ومحمد خاتمي، العمامة السوداء التي تصنف صاحبها على أنه «سيد»؛ وهو لقب في الفارسية يطلق على أحفاد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) من نسل ابنته فاطمة الزهراء، وبالتالي فهم يتميزون بالخصوصية.
الملاحظ أن الرئيس الجديد المنتخب إبراهيم رئيسي يرتدي هو الآخر عمامة سوداء، مما يشير إلى عزم النخبة الحاكمة على تعزيز وحدة صفوفها تحت لواء بني هاشم.
ومع ذلك؛ يبقى هناك عدد من الاختلافات في حالة رئيسي مقارنة بسابقيه…
يتمثل أول هذه الاختلافات في أنه أول من يفوز بالرئاسة وهو يتقلد لقب «آية الله»؛ ذلك أن الرؤساء المعممين الآخرين دخلوا الرئاسة وهم يحملون لقب «حجة الإسلام» فقط؛ وهو لقب يخص رجال الدين الشيعة من مرتبة متوسطة.
يذكر أن رفسنجاني ترقى إلى مرتبة «آية الله» بعد سنوات من انتهاء رئاسته، بينما بدأ خامنئي في استخدام لقب «آية الله» بعد خروجه من الرئاسة عندما وصل بالفعل لقمة النظام وأصبح «المرشد الأعلى». أما الآخر الباقي؛ خاتمي، فلم يتقدم قط لما وراء «حجة الإسلام».
ويبدو أن رئيسي لم يقنع بلقب «آية الله» وحده؛ ذلك أنه ثاني رئيس للجمهورية الإسلامية بعد روحاني يستخدم لقب «دكتور».
يذكر في هذا الصدد أن أياً من الرؤساء المعممين لم يَخُضْ تدريباً دينياً حقيقياً والذي يتطلب عقوداً من الدراسة والتدريب، قبل الحصول على لقب «حجة الإسلام»، ناهيك بلقب «آية الله». فيما يخص خامنئي، فقد تلقى تعليماً دينياً عادياً قبل أن يصبح ناشطاً سياسياً، لينتهي به الأمر إلى النفي عن الإقليم الذي يضم مسقط رأسه لمدة أربع سنوات.
وبعد الثورة، قضى خامنئي عقداً في نشاطات رسمية؛ منها أربع سنوات رئيساً للبلاد؛ الأمر الذي حال دون حضوره دروساً دينية. وعليه؛ فإن ترقيه إلى «آية الله» ومن بعدها «آية الله العظمى»، لم يكن سوى إجراء يتعلق بالعلاقات العامة فحسب.
من جانبه؛ كان رفسنجاني قبل الثورة مقاولاً في مجال البناء ورجل أعمال، ثم تحول إلى رجل دين بارتدائه عمامة بيضاء وإطلاقه على نفسه لقب «حجة الإسلام». وقبل الثورة، لم يسعَ خاتمي هو الآخر نحو بناء مسيرة مهنية على أنه رجل دين؛ وإنما سعى للحصول على درجة في الكيمياء من جامعة طهران.
وكان روحاني يسعى للحصول على درجة «دبلوما» في تصميم المنسوجات عندما أقنعته الثورة بارتداء عمامة بيضاء والقفز في القطار الكاسح القادم الذي يقوده الخميني. وفي وقت لاحق، وسعياً للتمويه على افتقاره إلى التعليم الديني، روج روحاني لنفسه على أنه «دكتور»، وادعى أنه حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة في أسكوتلندا.
وبذلك يكون رئيسي أول من بدأ رئاسته بثلاثة ألقاب؛ «آية الله» و«دكتور» و«سيد». ويعني ذلك أنه يملك بالفعل كل ما ادعاه سابقوه لأنفسهم وأكثر. الأهم من ذلك؛ ونظراً لأنه كان في سنوات المراهقة عندما رحل الشاه ووصل آيات الله للسلطة، أن رئيسي يشكل نتاجاً خالصاً للنظام الجديد الذي أسسه الخميني: إنه أشبه بإنسان آلي جرى تجميعه من جانب الآلة الجهنمية للدولة الخمينية، ويعكس جميع ادعاءاتها وتناقضاتها. كما أنه أقرب إلى الجيل الجديد من أصحاب المناصب البيروقراطية الرفيعة من سابقيه المعممين.
وتبدو هذه النقاط جديرة بالاهتمام؛ لأن النظر إلى رئيسي على أنه رجل دين يترأس نظاماً دينياً سيكون خطأً، فهو بعيد من أنه رجل دين؛ تماماً مثلما أن صدام حسين كان بعيداً من أنه «فيلد مارشال». وسيكون من الخطأ كذلك النظر إليه على أنه أكثر «انفتاحاً على العالم»، مثلما يقترح بعض «الليبراليين» الأميركيين، وذلك بفضل ادعائه الحصول على شهادة الدكتوراه.
من ناحية أخرى؛ ينظر كثيرون إلى رئيسي بوصفه مجرد شخص كان في وقت مضى قاضياً صغير السن شارك مع مجموعة من الملالي الذين أصدروا المئات؛ بل عشرات الآلاف، حسبما يقول البعض، من أحكام الإعدام بحق معارضين للنظام ومنشقين عنه. ومع ذلك، فإن النظر إلى رئيسي على أنه مجرد دمية تلعب دور القاضي الدموي سيكون أمراً مضللاً.
الحقيقة أن رئيسي صنيعة شبكة من المصالح على نحو يشبه عصابات «المافيا» على صلة بالجهازين العسكري والأمني، والتي سيطرت على الأمة الإيرانية وامتصت دماءها.
وينبغي لمن يأملون في التعامل مع الجمهورية الإسلامية أن يعلموا أنهم لا يتعاملون هنا مع هيئة رجال دين شيعية، أو مع إيران بوصفها دولة قومية؛ بل وحتى من ينظرون إلى الجمهورية الإسلامية على أنها أداة آيديولوجية لتصدير «الثورة»، ينبغي لهم إعادة النظر في أفكارهم.
الحقيقة أن فوز رئيسي هو فوز زمرة لا تهتم بأمر إيران ولا بأمر الثورة إلا في حدود ما يعزز قبضتها على السلطة ويحمي مصالحها ومكاسبها التي نالتها على نحو غير مشروع. أما خامنئي؛ فهو الساحر الشرير الذي أسهم في خلق هذا الوحش، وفي الوقت المناسب أصبح الوجه المعبر عنه.
ومثلما كشفت الانتخابات الأخيرة، فإن هذه الزمرة المعنية لا يزال بإمكانها الاعتماد على دعم نحو 30 في المائة من الناخبين الإيرانيين، الذين يتركزون بمعظمهم في المدن الصغيرة ومتوسطة الحجم. في المقابل؛ نجد أن إقبال الناخبين على المشاركة داخل جميع المدن الكبرى تقريباً، بما في ذلك طهران، كان أقل من 30 في المائة. بصورة إجمالية؛ كان المتخلفون عن المشاركة ومن أضاعوا أوراق انتخابهم في المرتبة الثانية بعد من انتخبوا رئيسي، مما ترك نسبة هزيلة من الأصوات للمرشحين الثلاثة الآخرين.
حول ما يخص معارضي النظام، فإن النبأ السار هنا يتمثل في أن رئيسي يتمتع بقدر أقل من الشرعية الشعبية من أي من سابقيه، في الوقت الذي يعاني فيه النظام من أوضاع متردية جراء الانهيار الاقتصادي وسوء الإدارة في عهد روحاني؛ الأمر الذي قد يحول دون إقدام النظام على أي مغامرات داخلية أو خارجية لافتقاره إلى الموارد اللازمة.
وثمة إمكانية كذلك أن يؤدي تهميش من يطلق عليهم «فتية نيويورك» إلى تمكين من يطلق عليهم «فتية موسكو» من نيل سلطة أكبر؛ الأمر الذي يدفع بالجمهورية الإسلامية للاقتراب أكثر من فلاديمير بوتين. ولم يكن من قبيل المصادفة أنْ كان بوتين أول زعيم أجنبي يهنئ رئيسي بفوزه.
وحتى في هذه الحالة، سيبقى الكثير معتمداً على قرار إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ما إذا كان سينقذ النظام الخميني بفتح خزائن المال أمامه مثلما فعل الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، أم سينتظر ليرى ما إذا كان بوتين سيتمكن من كبح جماح الوحش الخميني مثلما فعل مع نظام الأسد في سوريا.
وتكمن المفارقة في أن تركيز السلطة في يد فصيل يشكل خامنئي الوجه المعبر عنه، ربما يعني أن طهران الآن ربما تقدم تنازلات أكبر من أي وقت مضى. وإذا ما ساءت الأمور بالداخل، مثلما يبدو محتملاً حال استمرار السياسات الحالية، فإن الزمرة الحاكمة لن يكون باستطاعتها حينها إلقاء اللوم على «فتية نيويورك».