الحرب الإيديولوجية والدم المنهمر سيولاً
… وننتظر الانتصار. نريده من أجل “ناسنا” ليرتاحوا، ومن أجل الحجر والبشر، والحدّ “بقا” من الخسائر التي ما عادت تُعدّ وتحصى. لكن، حين يطلّ من يُحدثنا عن “انتصارات” حققها و”انكسارات” هدّت العدو، في حين أن “لبناننا” يكاد يُصبح “على الأرض يا حكم” والدماء تجري سيولاً، وجب علينا أن نطرح سؤالاً: ماذا عن مفهوم الانتصار؟ وهل في مفهومَي الانتصار والانكسار “إنكار” و”انفصام”؟
12 تموز بداية حرب ضروس. أتتذكرون؟ طائرات دكت الجسور. مبانٍ تهاوت. تشرّد، خوف، خراب وموت. 33 يوماً سوداء قاتمة. وأتى 14 آب 2006. انتصر “حزب الله”؟ هو رفع إشارات النصر أما اللبنانيون فلا. فهل كان “نصراً” أن يصفع “المنهزم”- في مفهوم البعض- “المنتصر” بقوّة ويغادر إلى بلاده بأقل أضرار؟ لملم لبنان الجراح وكم رُفعت يومها شعارات “شكراً قطر” و”شكراً لدولٍ عربيّة أعادت لأْمَ الجراح وتعبيد الأرض وترميم الحجر. واليوم، يتكرر المشهد بصورة أقسى.
“الإنتصار” في علم النفس
طرحنا السؤال عن مفهوم الإنتصار على الإختصاصي في علم النفس العميق الدكتور ميسر سري الدين فأجابنا بما ليس له تفسير دقيق بالعربيّة: how to relate to the issue is an issue. فماذا في شروحات ذلك في علم النفس العميق؟ يجيب: “الطريقة التي نتفاعل بها مع الأحداث هي التي تحدد أنّ ما يراه أحدهم انتصاراً يراه آخرون انكساراً، استناداً إلى الآراء والتجارب والتوقعات”.
لا يتكلم سري الدين طائفياً ولا سياسياً بل “سيكولوجياً” ويقول “ما يحصل اليوم هو أن الناس ينظرون إلى الحدث نفسه من منظارين. هناك من يعتبرونه انتصاراً ويصدقون ذلك، وهناك من يرونه انكساراً بسبب كلّ الدمار والموت والخسائر الهائلة”.
هل نفهم من ذلك أن الناس تكذب على نفسها أولاً؟ “هناك أفراد يعيشون في إنكار “denial” ولا يصدقوا إلا “الحقيقة” التي تبنوها والتي تتلاءم مع توقعاتهم. إنهم يعيشون “حقيقتهم” ولا شيء آخر. هؤلاء يعيشون في وهم الانتصار على الرغم من رؤيتهم أن 25 في المئة من الجنوب قد دُمر وأن مبانيَ سُويت في الضاحية والبقاع بالأرض. ويستطرد الاختصاصي في علم النفس العميق “نسمع حول فكرة الشهادة من يقول ويردد هنيئاً لهؤلاء الموت”. يضيف “الموت انكسار أمام الحياة. لكن، هناك من يُهنّئون من يموت استناداً إلى إيديولوجيا المقاومة في سبيل الله. ومن يتجرأ من نفس البيئة ويقول رأياً مغايراً يُنبذ من بيئته”.
متلازمة الإنكار
والحلّ؟ هل يبقى البعض في حالة الإنكار حتى الهلاك؟
“يُعلّم علم النفس، بحسب سري الدين، الناس ماذا تُفكّر لا كيف تُفكّر. لا يجوز لأيّ عقيدة أو شخص أو جماعة أن يسلبوا الفرد قوته الفكرية ويقولوا له: نحن نفكّر عنك. وحين يجرؤ أحد الأفراد ويفكر ويُحدّد: هذا صحيح وهذا خطأ، بمعزل عن الجماعة، يخرج من يقول: هذا خائن. من يُفكّر قد يُصنف في حالاتنا خائناً. حاله حال من يُشكّك بالدين. من ينتقد الدين، أي دين، يقولون عنه ملحداً. وهذا طبعاً غير صحيح”.
رائحة الموت تفوح. الكلام عن الموت يكاد لا ينتهي. الموت حقّ، لكن لماذا لا يمكننا أن نعيش بسلام ونموت بسلام. الصعوبة ليست في الحياة بل في الموت. نحن، اليوم، نفكّر في الموت بدل أن نفكّر في الحياة. إسرائيل هي مَن فعلت ذلك بنا؟ إسرائيل مجرمة.
لكن، لماذا ننجرّ إلى ما تريد؟ لماذا فعلنا بأنفسنا ما أرادت؟ وإلى متى نظل نعيش متلازمة الإنكار؟
في رأي الإختصاصي في علم النفس العميق “التغيير الجذري نحو فهم أشمل للأمور يبدأ من فردٍ أو اثنين أو ثلاثة يُفكرون “صحّ” تمهيداً لتغيير المفهوم الجماعي. تاريخياً، شهدنا إيديولوجيات عديدة لم تكن حقيقية مثل هتلر والإبادة النازية لليهود أو “الهولوكوست”. كان لديه معتقد أن اليهود مثل سمّ الحيّة. لاحقاً انتُقدت هذه الفكرة لكن ما حصل أن من اضطهدوا حينها عادوا أنفسهم واضطهدوا الآخرين. هناك أفكار وإيديولوجيات تموت فترة ثم تعود لتولد بمفهوم آخر مع أشخاص آخرين. بدليل أن ما فعله هتلر في اليهود يفعله اليهود في العالم”. يتابع سري الدين “هناك فكرة الحسن والحسين والغدر الذي تعرّض له الحسين. هذه الفكرة بقيت راسخة في عقل الناس وفق مفهوم الصراع بين الخير والشرّ، وأنّ الشرّ يربح عادة. الطائفة الشيعية تعتبر نفسها مضطهدة عبر التاريخ ومهمشة. وهناك من يقولون ويرددون أن السيّد حسن نصرالله أعطانا قيمة. هؤلاء عاشوا نفس الفكرة طوال 1400 عام. لم تمت لديهم وفيهم. لكن، إذا درسناها “سيكولوجياً” تأخذنا الى الصراع بين الخير والشرّ. اليوم، يعتقد الشيعة أنهم يصارعون الشرّ في المنطقة وهذا المعتقد الراسخ لديهم خلق فيهم إيديولوجيا أوصلتنا- وأوصلتهم- إلى ما نعيشه اليوم”.
هل يؤدي المعتقد الذي يسود أدمغة الجماعة إلى شكلٍ من أشكال الإنفصام؟ يجيب سري الدين “طبعاً، هو انفصام عن الواقع، يمنعهم من رؤية الحقيقة، ومن الانتفاضة على الخطأ والنفس والإيديولوجيا المتحكمة”.
انتصارات وهمية
في مفهومه، خرج “حزب الله” في العام 2006 “منتصراً”… فهل سيتغير شيء في مفهومه للانتصار هذه المرة؟
هي انتصارات وهمية أن يتشرد أكثر من مليون إنسان وتتدمر 25 في المئة- على الأقل- من أراضي الجنوب، وتنهار الأبنية في الضاحية والبقاع، من دون أن يكون قد حقق من ظنّ نفسه “منتصراً” شيئاً. الصمود جميل لكنه لا يعكس مشهدية انتصار. ويقول الإختصاصي في علم النفس “هي فكرة القطيع التي تلازم الكثيرين في لبنان. والقطيع يكرر- وسيكرر- “أنا الحقّ”. إذا لم يفكّر مطلق شخص بينه وبين نفسه، منفرداً كإنسانٍ حرّ، بما حصل فسيلازم السير في القطيع. الانفصال طبعاً صعب. لكن، المفروض أن يقرر كل فرد- باستقلالية – كيف يتعاطى مع واقعه ويقول: سأختار قراري. عليه أن يتعرف على نفسه ويتأكد أن الله أعطاه دماغاً ليُفكّر ويقرر”.
كثيرون يفكرون لكن الانفصال عن مفهوم القطيع ليس سهلاً عليهم. سيشعرون في قرارة أنفسهم أنهم منبوذون، كما من يُفكر في البعد الديني فيُتهم بالإلحاد. لكن، في النهاية، لا بُدّ أن يعرف – من يعرف قيمة التفكير – أن رفع شارة الانتصار ليس دائماً انتصاراً.
جميلٌ هو الشعور بالانتصار لكن الاعتراف بالخطأ فضيلة. جميلٌ أن يُدرك من دفعوا الغالي والنفيس أن “حزب الله ليس غالباً دائماً”.
نحن شعب نحب الأناشيد والأغنيات التي تضخّ فينا الحماسة. نحن غنينا مع فيروز “ميسلون”: “على الأرض بين الوحول وفوق الدروب الطوال نشقّ الطريق ونمضي تباعاً نخوض القتال/ عند الحدود في ميسلون لنا ذكريات بطولات جيش تحدى المنون ليبني الحياة”.
لكننا نرفض الاعتراف حتى الآن أن القوات الفرنسية تمكنت آنذاك من هزيمة قوات الملك الهاشمي فيصل الأول وأنصاره ودخلت دمشق ظافرة. حصل ذلك في 24 تموز 1920.