معركة إدلب، هي الأكثر تعقيداً في كل الحروب السورية “المتناسلة”، وبالتأكيد أخطرها. دائماً تكون معارك ربع الساعة الأخير، صعبة جداً ودموية أكثر. هذه المعركة إن وقعت، فإن المرور عبر “بيت العنكبوت” لا يتم دون تمزيقه. يوجد عدة ملايين من السوريين من أهلها أصلاً، ومن الذين نزحوا إليها. ومهما بلغ عامل إسقاط الشعور الإنساني، على قاعدة أن لكل نهاية حرب ثمناً غالياً، فإن ذلك لا يبرّر قصفها عشوائياً حتى ولو كان الثلاثي: روسيا وإيران وبشار الأسد، لا يهمهم أمر سلامة المدنيين. المهم بالنسبة لهم تصفية هذه البؤرة والإعلان أن الحرب انتهت.
لو اقتصرت الخسائر على المدنيين، كانت “الترويكا” المهاجِمة وجدت ألف عذر ووسيلة للحسم. لكن المشكلة الكبرى لهم وللعالم كله، هي ما العمل بالآلاف من المقاتلين الأجانب الذين تجمّعوا في إدلب، التي هي ليست مدينة صغيرة، إذ ان مساحتها توازي مساحة لبنان. هؤلاء “الداعشيين” (اختصاراً وليس حصراً) يشكّلون عقدة العقد. لا أحد في العالم يريد أو يفكر باستقبال واحد منهم. أيضاً لا أحد يرى في إقامة معسكر على غرار “غوانتنامو” لاعتقالهم سنوات. إنهم “سكين” تجرح في جميع الحالات.
يُقال “طابخ السم آكله”، الآن كل مَن شارك في صناعة “داعش” بكل تسمياتها خائف من مستقبل التعامل معها. تماماً وربما أكثر ما حصل مع “القاعدة”. قُتِلَ بن لادن ولم يتغيّر شيء. يوماً بعد يوم، تتوالد فيه “القاعدة” تحت تسميات مختلفة. الأخطر أن أفغانستان وباكستان معاً تشكّلان “الحاضنة” الجغرافية والطبيعية لـ”تناسل” “القاعدة”. هكذا وربما أكثر النتيجة مع “داعش” بكل تسميتها. مَن يبقى حيّاً وينجح بالتسلّل إلى العالم لن يرحم، إن لأسباب تتعلق بنشأته، وإن لتفجير الحقد المتوالد من الهزيمة والموت.
رغم كل دعاوي “الأنسنة” التي يوزّعها الأطراف المتجمّعة في سوريا وحولها، فإن التأخر بتنفيذ الهجوم يعود إلى تداخل الأهداف بالطموحات وبالقدرات، إلى جانب المواقع ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
بداية، الرئيس فلاديمير بوتين، يريد بلا شك إقفال ملف الحرب في سوريا بأي شكل وبأي ثمن قبل نهاية العام. يريد “القيصر” التفرّغ لشؤون روسيا ومحيطها وموقعها في العالم الذي يتشكّل في ظلّ تراجع الولايات المتحدة الأميركية وزحف الصين المستمر والمتواصل ببطء ودون ضجيج. مشكلة بوتين في سوريا. أنه يريد الكثير، ولكن لا يمكنه تجاهل إيران ولا إغضاب الولايات المتحدة الأميركية. لذلك يلجأ كعادته إلى “أخذ” ثمن كل قطعة على حدة. يُعطي هنا، ويأخذ هناك. ما يعطيه لإيران، يقايضه مع إسرائيل والعكس صحيح. لا يمكن لبوتين الاستغناء عن إيران وحتى أنه لا يستطيع حتى ولو أراد، وفي الوقت نفسه لا يمكنه تحمّل ضغوطها ومطالبها، لأنها أحياناً تتناقض مع مصالحه وحتى أهدافه. ما يعزّز هذا التناقض، أن إيران تلعب اقليمياً بينما بوتين يخوض “مبارزة” دولية، والفرق شاسع بين مساحتَي الاقليم والعالم.
إيران ليست عقدة فقط، إنها الممر الإجباري لكل الحروب والحلول. المرشد آية الله علي خامنئي جعل من سوريا كل شيء. خسارة سوريا بالنسبة للاستراتيجية “الخامنئية” خسارة كل شيء. كل ما صنعه في العقدَين الماضيين يتبخّر ويتحلّل في وقت يتواجه فيه مع الولايات المتحدة الأميركية علناً. الأخطر بالنسبة له، أنه وهو يفاوض سرّاً على الأرجح مع الأميركيين سواء في عُمان أو غيرها، عليه أن يبدو قوياً وصلباً حتى لا يخسر بالنقاط ويضطر لتقديم التنازلات. مشكلة المرشد الكبرى، أنه وهو يخوض “أم المعارك”، يواجه داخلياً صراعات مكشوفة يتناول بعضها تركيبة النظام ومؤسساته وليس فقط الأشخاص. المشكلة لم تعد محصورة في شخص المرشد وإنما تجاوزتها لتتناول “ولاية الفقيه” ومستقبلها.
أما تركيا فإنها الأكثر إحراجاً، لأنها لا تستطيع ولا يمكنها التخلّي عن إدلب وفي الوقت نفسه لا تريد تدمير “الجسور” التي بنتها مع روسيا، لتخسر بذلك كل شيء، الماضي والحاضر والمستقبل. ليس أمراً بسيطاً لتركيا أن تدير ظهرها لموسكو بعد أن عقّدت علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية. لا يمكن لتركيا أيضاً ترك سوريا بدون ترتيبات تضمن لها مصالحها، خصوصاً وأن سوريا تشكّل جزءاً من أمنها القومي. لذلك تبدو تركيا الأكثر إحراجاً، فهي لا تريد المشاركة في المعركة ضدّ إدلب، ولا يمكنها منعها ولا تحمّل “تسونامي” النازحين، كل شيء يتوقف على تفاهماتها مع “الترويكا” الروسية – الإيرانية – الأميركية.
تبقى الولايات المتحدة الأميركية، الحاضر الكبير في غموضه وحقيقة أهدافه وحدود انخراطه في المواجهة. ما لم ينجلي الموقف الأميركي سيبقى كل شيء غامضاً، من مصير إدلب إلى مستقبل الأسد، مروراً بطبيعة علاقتها مع موسكو وأنقرة.
في قلب كل ذلك، السؤال الكبير إلى أين ستصل المواجهة الأميركية – الإيرانية؟ من الواضح حتى الآن أن “كرة الثلج” الضخمة التي تتدحرج لا يريد الطرفان أن تأخذ في طريقها احتمال ولادة جديدة، سواء بدأت من الداخل أو عبر المفاوضات، خصوصاً وأن الحرب ممنوعة والاستسلام مستحيل.
يبقى أن إسرائيل هي الرابح الكبير في كل ما يحصل. عملياً وضعت يدها على جنوب سوريا بطريقة غير مباشرة. إيران أُبعدت، وروسيا “حارسة” مثالية، والجولان سيبقى لها حتى أجل غير معلوم، في وقت تحتاج فيه سوريا لكي تقوم من تحت الركام والرماد عقوداً طويلة، هذا إذا صفّت النوايا ووُجدت الإرادات.