بعد مرور أكثر من 18 شهراً على الشغور الرئاسي، وهذا يحصل للمرة الأولى في تاريخ لبنان، بات من حق الناس أن يسألوا لماذا ومن المسؤول؟ أهي قوى 8 أم 14 آذار؟ أهو مجلس النواب؟ أهو الصراع على السلطة الذي تتحكم فيه الأنانيات والمصالح الذاتية؟ أهو الصراع بين المحاور في المنطقة وانعكاسه على الساحة اللبنانية؟
الواقع أن الخلاف على تفسير المادة 49 من الدستور كان بداية فتح أبواب الشغور الرئاسي، وهي المادة التي تنص: “ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي”. والخلاف أيضاً على تفسير نص المادة 74 لجهة حضور كل النواب جلسة الانتخاب وعدم التغيّب عنها إلا بعذر شرعي، فاعتبر نواب أن الحضور إلزامي، واعتبر بعض آخر خلاف ذلك “تطبيقاً للديموقراطية”. وكان على هيئة مكتب المجلس أو الهيئة العمومية للمجلس حسم هذا الخلاف بالتصويت تفسيراً لهذه المادة وروحها، لكن هذا الخلاف لم يحسم. والخلاف أيضاً على المادة 75 التي تعتبر مجلس النواب الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية، وهو خلاف لم يحسم أيضاً، فنواب قالوا بأنه هيئة اشتراعية عندما لا تكون الجلسة مخصصة لانتخاب الرئيس، وآخرون قالوا إنها تبقى هيئة انتخابية الى أن ينتخب الرئيس.
أما خارج الدستور فالخلاف على أشده بين 8 و14 آذار، فهذه لا تؤيد مرشحاً للرئاسة يكون من 8، وتلك لا تؤيد رئيساً من 14 آذار، لذلك لجأت الى تعطيل نصاب جلسات الانتخاب خلافاً للدستور ولتحول دون انتخاب رئيس من 14 آذار، وظلّت مصرة على الاستمرار في تعطيل الجلسات الى أن يصير اتفاق على مرشح للرئاسة مقبول من التكتلين الكبيرين، ما جعل بكركي تجمع الاقطاب الموارنة الأربعة في محاولة منها لجعلهم يتفقون على مرشح واحد منهم ليكون الرئيس أكثر تمثيلاً للمسيحيين. ولكن تعذّر على بكركي جعلهم يوافقون على مرشح منهم ولا حتى على مرشح من خارجهم، فصار الاتفاق على حضور جلسة الانتخاب وترك الحرية للنواب لانتخاب من يشاؤون من بين المرشحين المعلنين وغير المعلنين. لكن حتى هذا الاتفاق لم يلتزمه نواب ينتمون الى أحزاب 8 آذار، ما جعل البطريرك الكاردينال الراعي يعلن في تصريح له أن لا مجال لانتخاب رئيس من 8 أو 14 آذار بل من خارجهما ويكون مرشحاً مقبولاً من الجميع أو من الغالبية الكبرى، فبادر الدكتور سمير جعجع وأعلن استعداده للانسحاب لمرشح توافقي، في حين ظلّ العماد ميشال عون مصراً على ترشيحه ومعتبراً المرشح التوافقي مرشحاً لا لون له ولا طعم ولا رائحة، وليس له بالتالي صفة تمثيلية. وأيده في ذلك “حزب الله” ربما ليس حباً بعون بل حباً باستمرار تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية علّ ذلك يفرض إجراء انتخابات نيابية قبل الرئاسية، أو يفرض مرشحاً من 8 آذار. وعندما لم يتحقق ذلك دعا الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله الى الاتفاق على تسوية وطنية شاملة للخروج من أزمة الانتخابات الرئاسية، فردّعليها رئيس “تيار المستقبل” الرئيس سعد الحريري بتأييد ترشيح النائب سليمان فرنجيه علّ ترشيحه يكسر حلقة تعطيل نصاب جلسات الانتخاب، ويجعل عون ينسحب له كونهما من خط سياسي واحد. لكن هذا لم يحصل حتى الآن لاسباب شتى ولحسابات مختلفة لكل من قوى 8 و14 آذار ولجهات خارجية. فلا خروج إذاً من أزمة الانتخابات الرئاسية إلا بانسحاب العماد عون للنائب فرنجيه أو باستمرارهما معاً في المعركة وللأكثرية النيابية أن تحسم بينهما بالاقتراع السري أو بالاتفاق على مرشح تسوية يفوز بشبه إجماع. فإذا لم يتم الاتفاق على أي حلّ من هذه الحلول فإن استمرار نواب من 8 آذار في مقاطعة جلسات الانتخاب يجعلهم يتحملون وحدهم مسؤولية استمرار الشغور الرئاسي وما سيكون لذلك من تداعيات سلبية على الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية في البلاد. فهل ينتفض هؤلاء النواب، أو عدد منهم، على قرارات أحزابهم ويقررون وقف لعبة التعطيل المضرة وحضور جلسة انتخاب رئيس الجمهورية وإلا تحملوا مسؤولية الاستمرار في تعطيل جلسات الانتخاب أمام الله والوطن والتاريخ والناخبين الذين سيحاسبونهم يوم الانتخاب لأنهم يكونون قد خانوا الوكالة عنهم وأبقوا الوطن بلا راس ليصبح جسداً ميتاً، وطن تحكمه الفوضى وشريعة الغاب. فهل يتحرك ضمير معطلي جلسات انتخاب الرئيس وضمير الاقطاب الموارنة فيتفقون على مرشح منهم أو على مرشح مستقل مقبول ويلتزم برنامجاً يقيم الدولة القوية التي لا دولة سواها ولا سلاح غير سلاحها، وإلا فعلى جميع النواب حضور جلسة انتخاب رئيس لأنه انتخاب الضرورة أكثر من أي أمر آخر. فهل تنجح بكركي وتحرّك الرئيس أمين الجميل في التوصل الى ذلك ويتشبه النواب بالمطارنة الموارنة في الزمن القديم عندما تعذر عليهم الاتفاق على انتخاب بطريرك، فانتخبوا راهباً كان يلقب بـ”راهب المحدلة” لأنه كان يحدل سطح الدير كي لا تبقى البطريركية من دون بطريرك؟ فعلى النواب أن يفعلوا مثلهم وينتخبوا رئيساً كي لا تبقى الجمهورية بلا رئيس.