لم ينفك الرئيس العماد ميشال عون في أدبياته السياسية، قبل الرئاسة وبعدها،عن التأكيد والتصميم على مكافحة الفساد، كهدف أساسي من أهداف تياره وعهده. ولا يشك أحد في نيات الجنرال لتحقيق هذا الهدف السامي في تاريخ الدول. لكنه لم يفصح حتى الآن عن الوسائل والأساليب التي يفترض أن تعتمد لوضع حدّ لهذه الآفة التي تفتك بمفاصل البلد والدولة.
ولا شك في أن الرئيس عون بخبرته الطويلة، يعرف جيداً أن مهمته في هذا المجال ليست سهلة، لأن الفساد بشكل عام ليس رجلاً، ولو كان كذلك لقتلناه واسترحنا. الفساد في لبنان ليس فريداً من نوعه في العالم، لكنه بات في بلدنا ثقافة نابعة من عنصرين رئيسيين: الحاجة والجشع. وثمة من شجّع ويشجّع، أو عمّم ويعمّم هذه الثقافة لأهداف سياسية ومصلحية، مستنداً الى نظام سياسي طائفي يحمي الفاسدين، والى تراخٍ سلطوي في هذا المضمار.
والفساد في لبنان ليس مستجداً، بل هو من عمر الدولة اللبنانية، لكنّه كان مقتصراً على فئات سياسية تستغل السلطة لتحقيق كسب غير مشروع. وقد حاول الرئيس فؤاد شهاب وضع حدّ لهذه الآفة من خلال الهيئات الرقابية التي استحدثها عهده، لكن هذه الهيئات ضمُر نفوذها حتى باتت اليوم بلا أنياب، بسبب التدخلات السياسية في شؤونها، بدءاً من تعيين القائمين عليها، وانتهاء بالمحاصصة في التوظيفات والتدخّل في الملفات المحالة اليها.
وبصريح العبارة لم يعُد الفساد مقتصراً على السياسيين وعلى بعض الشرائح النافذة، بل هو يشمل معظم فئات الشعب اللبناني التي استسهلت، بسبب الحاجة أو الجشع، الكسب غير المشروع والتفلت من الالتزامات والرسوم والضرائب والمتوجبات الخدماتية، نتيجة غياب المحاسبة الجدية، حتى بتنا نخشى أن ينطبق علينا عنوان الفيلم العربي الشهير «كلنا لصوص يا عزيزي»… أوليس ضرباً من ضروب الفساد سرقة الكهرباء والمياه والتهرّب من الضرائب والرسوم الجمركية ورشوة الموظفين في الدوائر الحكومية لتسهيل المعاملات، وكلها يعدّها اللبنانيون «شطارة» لا مخالفة؟.. وبالطبع لا يستوي سارق الرغيف جوعاً، مع ناهب المال العام جشعاً.
إن مكافحة الفساد في لبنان صعبة، لكنها ليست مستحيلة عندما تتحدّد مفاصلها ومكامنها الرئيسية، وبعد ذلك تستنبط لها العلاجات الملائمة، خاصة أن دولاً غيرنا اعتمدت أساليب ناجعة في هذا المضمار، فحوّلت الفساد من ثقافة الى جناية معيبة تخجل العامة والخاصة من ممارستها.
ثمة مفاصل رئيسية يكمن فيها الفساد في لبنان، وفي الإمكان الحدّ منها وصولاً الى قطع دابرها:
أولاً: في الإدارات العامة حيث الرشوة تضرب أطنابها. وهنا يمكن اعتماد المكننة وتكثيفها، بحيث يتم إبعاد المكلف عن الموظف من خلال وسيط آمن، فينجز المواطن معاملاته من خلال البريد الألكتروني أو مؤسسات مختصة. وعلى سبيل المثال كانت تجربة «ليبان بوست» وغيرها تجربة ناجحة في هذا المجال الى حد كبير.
ثانياً: في التعهّدات والالتزامات التي تطرحها الدولة. والعلاج هنا في تأمين هيئة مستقلة للمناقصات تتسم بالشفافية المطلقة، وتخضع لرقابة عليا ليس مستنكَراً أن تضمّ خبراء دوليين عرباً وأجانب مشهوداً لهم بالنظافة.
ثالثاً: في المرافق الحدودية البرية والجوية والبحرية. وليس عيباً في مرحلة أولى اعتماد مراقبين دوليين لضبط التهريب والتفلّت من الرسوم الجمركية، بالاعتماد على أحدث الأساليب التقنية العالمية. وهذا الخيار لا ينتقص من السيادة اللبنانية في ظل الواقع الراهن.
رابعاً: في التوظيفات الجديدة في دوائر الدولة. وهنا يكمن بيت القصيد الذي لا مناص منه، حيث تتمّ التعيينات اليوم من خلال «كوتا» سياسية طائفية بالمحاصصة، فيُضطر المواطن للجوء إلى مرجعيته السياسية أو الطائفية، أو دفع الرشى من أجل الحصول على وظيفة. وهنا يُفترض تحرير مجلس الخدمة المدنية من السطوة السياسية، وترك الكفاءة تأخذ حصتها من جبنة الدولة. وإذا ما تحقق ذلك نكون قد وضعنا الإصبع على الجرح اللبناني المزمن من حيث تبعية الناس لملوكهم، فتكون تبعيتهم للدولة العادلة.
في موازاة ذلك لا بد من معالجة الأسباب. فصاحب الحاجة كافر بالمثل والقيم كلها، ويفترض بالدولة توفير حاجاته الخدمية الأساسية كي يتحلى بشيء من الإيمان. أما الجَشِع فلا بدّ من الضرب بيد من حديد على خاصرتيه، فإن لم يرعو فعلى الرأس، وكان الله يحبّ المحسنين.
قد يكون في هذه الطروحات شيء من الطوباوية. فالقضاء على ثقافة الفساد ليس عملية جراحية عاجلة، بل هو مسيرة طويلة نحو نظام سياسي وطني لا طائفي سليم، وتتطلّب الإرادة والصبر والنظافة. وتعتقد غالبية اللبنانيين أن الرئيس ميشال عون يمتلك هذه الصفات، وأن ثمة شريحة لبنانية كبيرة مستعدّة للتعاون معه. فالبلد لم يخلُ من الأوادم الذين يحلمون بوطن.