يتطلب الأمر شجاعة كبيرة وثقة استثنائية بالنفس لقطع حبل السرة بين الزعيم وأتباعه. العماد ميشال عون حسم قراره منذ سنوات وقطع أكثر من خيط في الحبل الغليظ، لكن الناشطين يتمسكون بطرف الخيط رافضين الإفلات، مثل عاشق ذليل يرى زوجته تخونه ويرى بطنها يتكور ثم يرى طفلاً يشبه من خانته معه، فيما هو يواصل القول إنها حبيبته وستترك كل شيء لتعود إليه
لا شك أن الديمقراطية الكتائبية والقواتية والأملية والاشتراكية والقومية والمستقبلية أسوأ بكثير من الديمقراطية العونية، إلا أن الفارق يكمن في احترام حزبييهم لشروط اللعبة الحزبية، فيما تعجز أقلية عونية عن الانضواء في هيكل حزبيّ تقليديّ وتقديم فروض الطاعة لرئيس الحزب.
فكل ما حصل ويحصل حتى الآن داخل التيار الوطني الحر لا يتجاوز واحداً في المئة مما شهدته أحزاب أخرى. فعدد السوريين القوميين الاجتماعيين خارج المؤسسة الحزبية يكاد يكون ضعف عدد من بقوا داخلها، فيما يمتلئ البلد بمناضلين سابقين في الكتائب والشيوعي والاشتراكي وغيرها. الفارق الرئيسي يكمن في حصول العزل أو النفي أو الإعدام بهدوء وبعيداً عن الأنظار سابقاً، فيما تضجّ وسائل التواصل الاجتماعي فوراً اليوم بأخبار المحاكمات الحزبية. إضافة إلى عدم تقديم الأحزاب الأخرى نفسها كمساحات ديمقراطية استثنائية كما يواصل التيار زوراً الإيحاء.
عملياً بدا منذ عام 2005 أن شروط العماد ميشال عون للعبة الحزبية تختلف عمّا كان نشطاء تلك المرحلة يأملونه. هناك من اقتنع، وهناك من لم يقتنع لكنه تأقلم مع مقتضيات الحفاظ على دوره، وهناك من لم يقتنع ولم يلهث خلف دور، لكنه لم يقطع حبل السرة المربوط بالعماد عون. علماً أن الجنرال لم يراوغ أو يبدي يوماً حماسة زائفة للتنظيم الحزبيّ، ولولا ضغط الناشطين المعنوي عليه وسعيه لتنفيس احتقانهم لما فتح باباً جانبياً لبحث الموضوع بين عام وآخر. وحين أوعز الوزير جبران باسيل إلى مستشاريه القيام باللازم لإنشاء حزب، عجز هؤلاء عن التدخل في صياغة باسيل لتفاصيل النظام الداخليّ، وعجزوا عن إيجاد مرشح، أقله ينافس باسيل على رئاسة الحزب، وعجزوا عن الحؤول دون قيام باسيل باللازم لإيصال من يريدهم إلى مكتبه السياسي. لكنهم، رغم هذا كله، يؤثرون البقاء في حزب لا يعجبهم شيء فيه. لماذا؟ لا أحد يعلم. إذا سئل أي ناشط من هؤلاء إذا كان خطاب التيار المذهبيّ والعنصريّ والمتعايش مع الفساد يعجبه سيجيب: «لا طبعاً». النظام الداخليّ للحزب يعجبك؟ لا. القيادة الحزبية؟ لا. التحالفات الطارئة؟ لا. حتى ظاهرة تصويت الحزبيين لتحديد المرشح الأنسب بنظرهم إلى الانتخابات النيابية التي تُعَدّ اختباراً تقدمياً مميزاً تناوب نعيم عون وزياد عبس على وصفها بـ»سباق الحمير»، في إهانة كبيرة لأنفسهم (باعتبار أن عبس قدم ترشيحه) والكثير من أصدقائهم.
جدياً كان يمكن الناشط عبس وبعض رفاقه أن ينشئوا تنظيماً سياسياً شبابياً صغيراً أكثر فعالية ونضجاً سياسياً بكثير من المجموعات التي برزت في العامين الماضيين، وقد أثبتت قدرتها على إزعاج مكونات السلطة. علاقة هؤلاء بأفرقاء «بيروت مدينتي» والوزير السابق شربل نحاس ونشطاء الحراك المدني وفعاليات مناطقهم تخولهم الانطلاق بتنظيم متماسك صغير بقوة وفعالية. ولا شك في أن «نوعيتهم» تخولهم خلق ديناميكية سياسية كبيرة، سواء في الشوف حيث أدخل التيار إلى ثلاجة حفظ الموتى، أو عاليه التي نسي العونيون نسب من عادوا من مهجريها، أو بعبدا والمتن وكسروان حيث توجد مئات لا عشرات الملفات المطلبية التي تحتاج شباباً ديناميكيين يملكون الطاقة والقدرة على رفع الصوت. وقد حضر العشاء الذي أقامته جمعية أرثوذكسية يديرها عبس أكثر مما يمكن تيار الأشرفية أن يجمع، فيما يتجاوز نشاط هذه الجمعية الخدماتي والإنساني في بيروت نشاط التيار على هذين الصعيدين في كل لبنان. علماً أن التيار الوطني الحر يبحث في جبيل وكسروان والمتن والأشرفية وجزين عمّن يملك ثلاثة أو أربعة آلاف صوت ليتحالف معه في الانتخابات النيابية. وعليه، من دون الدخول في الأسماء لو قرر أحد الناشطين المغضوب عليهم في المتن الشمالي إدارة ظهره للتيار وكسب ثقة ناخب متني واحد يومياً منذ عشر سنوات، لكان وزنه ــــ مستقلاً عن التيار ــــ يوازي وزن النائب ميشال المر اليوم، ولتسابق التيار وأحزاب أخرى إلى التحالف معه في الانتخابات بدل البحث عن ذرائع لإبعاده كما يحصل اليوم. وبالنسبة إلى النواب الحزبيين الذين يعانون الأمرّين مع باسيل، ما كان هؤلاء ليفوزوا بمقعد نيابي لولا التيار الوطني الحر صحيح، لكن بعد عشر سنوات نيابة يفترض أن يكونوا قد راكموا عملاً سياسياً وإنمائياً وخدماتياً يخولهم إفهام من يعنيه الأمر أن حيثيتهم كأشخاص باتت أكبر من حيثية المستقلين الذين يتحالف التيار معهم (سليم سلهب وغسان مخيبر ويوسف الخليل وجيلبرت زوين ووليد خوري ونعمة الله أبي نصر) وباتت الآية معكوسة بحيث يصعب على التيار أن يفوز مجدداً بمقاعدهم النيابية من دونهم. علماً أن النواب والمرشحين غير الحزبيين يلقون احتراماً أكبر ومعاملة أفضل من قبل قيادة التيار من النواب والمرشحين الحزبيين. وبالتالي، إن الوجود خارج الحزب قد يكون أفضل بكثير لهؤلاء الحزبيين من الوجود داخله، إلا إذا كانت البطاقة الحزبية ذريعتهم لعدم العمل والاكتفاء بتحميل غيرهم المسؤولية.
الوزير باسيل يمسك بحزب التيار الوطني الحر اليوم «من البابوج إلى الطربوش»، ولا يمكن ــــ لا اليوم ولا غداً ــــ مزاحمته أو إلزامه بشيء. والحزب ــــ خلافاً لما يشاع ــــ يمتلئ برجال الأعمال، لكنه يمتلئ أيضاً بشباب مناضلين سابقين قانعين بدورهم ومقتنعين بباسيل الذي لا يريد من يوجعون رأسه أياً كان حجم تاريخهم أو تضحياتهم. ولا شك في هذا السياق أن تجميد نشاط منسق بيروت جورج تشجيان وزياد عبس رسالة واضحة، أن ما من خيمة فوق رأس أحد. وبناءً عليه، لا بدّ ممن لا يعجبه الأمر أن يتمتع ببعض الحياء؛ هذا الحزب لجبران باسيل، هكذا يريد العماد عون، وهذا ما بينته الانتخابات الحزبية. وباسيل لا يريدهم في حزبه. يمكنهم الاستمرار بالصراخ «هذا الحزب لنا»، لكن الأمر بات عبثياً، ويكاد يكون مملاً ومنفراً أيضاً لكثيرين. لا يمكن أن يطردوا الثلاثاء ويشاركوا في نشاط حزبيّ يوم الأربعاء. بات الأمر معيباً بعض الشيء؛ العماد عون يقطع حبل السرة الذي يربطه بهم، وهم يصرون على لَحمِه. يشبه الوضع عاشقاً ولهان أعلمته عشيقته أنها تريد قطع علاقتهما، ثم قطعتها، ثم تزوجت غيره وأنجبت أولاداً فيما هو متوهم أنها حبيبته وأنهما يعيشان معاً.
الأمر محبط طبعاً لبعض الناشطين العونيين، لكن من لا يجد نفسه قادراً على التعايش مع الوزير جبران باسيل عليه التوقف عن البكاء على الأطلال والبحث عما يمكنه فعله في مكان آخر. هذا أفضل له أولاً، وللتيار الوطني الحر ثانياً.