في 12 كانون الأول هذا، تحلّ الذكرى العاشرة لاستشهاد زميلنا جبران تويني. أستحضر جرأته وصراحته في قول ما يعتقده ويؤمن به، فأسمح لنفسي بتذكير رفاقه والخصوم، من أهل الطبقة السياسية، ومن أهل الإعلام، ببعض الأصول، على هامش الاهتمام المستجد بمسألة انتخاب رئيس للجمهورية.
حسناً تفعل الطبقة السياسية اللبنانية. حسناً يفعل زعيم “تيار المستقبل”، ومعه الجهات المحلية والإقليمية والدولية التي تماشيه، تحت الطاولة وفوقها، لتستولد لنا رئيساً للجمهورية. إنها فعلاً على الطريق السليم. هي قد تكون تسرّعت قليلاً في حرق المراحل (هل تسرّعت حقاً؟!)، إذ كان لا بدّ من نار وئيدة لتنضج الطبخة على مهل. لكن لا بأس. فالمهم أن يكون للبنان رئيس يُخرج البلاد من النفق المظلم، ويعيد الحركة إلى عجلة الدولة، ويسهر على سلامة الجمهورية، ويحفظ الدستور، ويحمي الحدود، ويسوس شعبه بالعدل والرحمة.
* * *
فليطمئن مَن يعتريه قلق، من أصحاب الخطط والحسابات والمشاريع الرئاسية المضادة. بل أقول للجميع: اطمئنوا ولا تسيئوا الفهم. يجب أن لا يشعر أحدٌ بالتوجّس مما يجري راهناً. إذ لا مجال هنا للخيانات، ولا للضغائن، ولا للطعن في الصدور أو في الظهور. لكن، إذا اشتمّ بعضكم أن تحضيراً حثيثاً لإجراء عرضٍ مثير وخطير بالقفز على الحبال، فمن شأن ذلك أن يجعل السيرك اللبناني بهلوانياً تماماً، وأكثر تشويقاً ودينامية. صحيحٌ أننا مللنا المراوحة، لكن الصحيح الصحيح أن القفز البهلواني هو من جوهر أخلاقياتنا السياسية، ومعاييرنا، وسلّم قيمنا. إذا قُتِل القتيل، ومشينا في جنازته، فأين العجب في ذلك. المهم أن يعود لبنان إلى السكة السليمة، وأن تكون المياه في طريقها للعودة إلى مجاريها. لقد اشتقنا حقاً. اشتقنا إلى إرثنا التليد في تقاليد اللعب على الحبال، وفي ممارسة الأصول الديموقراطية. فليفرح مَن يفرح. وليحزن مَن يحزن. ما دام ليس ثمة قيمٌ يُعتَدّ بها في السياسة، فبالنسبة إلى كثيرين، “كلّ من تزوّج أمّي صار عمّي”. والحال هذه، ثمة مَن يعدّ العدة للمواجهة فيرفع شعار: “ما تقول فول حتى يصير بالمكيول”، وثمة في المقابل مَن يهرع لركوب القطار قائلاً: “قوموا تنهنّي”!
* * *
العاطلون من العمل صبروا طويلاً ويمكنهم أن يصبروا قليلاً أيضاً. الفقراء، الأساتذة، العمّال، الشباب، وأصحاب الأفكار والأحلام، ومَن لفّ لفّ الطبقة الكادحة، فليعضّوا على جروحهم. أما النفايات فيمكن أن تنتظر الحلول، التي لا بدّ أن تأتي في أوانها. لا شيء مستعجلاً على هذا المستوى. ولا على مستوى التلوث. والمرض. والجوع. والفقر. والهجرة. والكساد. هل يجب أن نسرّع أمراً فنفسده؟! أوعا. لهذا السبب، تبدو الطبقة السياسية مشغولة اليوم بمسألة أكثر خطورة وأهمية. فلا تلوموا هذه الطبقة السياسية إذا نزل عليها وحيٌ مفاجئ، ربّاني، أو شيطاني، لا فرق، وأصبحت – يا عجباً – تستعجل انتخاب رئيس. لقد طال انتظار الرئيس حقاً. ولم يعد يجوز الاستمرار في هذه الإطالة التي تهدد الكيان والوجود. معهم حقّ، هؤلاء الذين باتوا مستعجلين انتخاب رئيس. فلينتخبوا رئيساً. هم نوّاب عندهم مشروعية (شرعيون؟!)، وإن كانوا قد مدّدوا لأنفسهم. وهم أحرار في انتخاب مَن يرتأونه، وفي استبعاد مَن لا يرتأونه. أما المعايير والقيم والشعارات، فلتذهب إلى الجحيم.
ما دام الكلام يجب أن يكون صريحاً للغاية، وما دام النظام السياسي طائفياً حتى النخاع العظمي، ففي مقدور زعيم “تيار المستقبل” السنّي، المالك كتلةً نيابية ضخمة، أن يختار، وأن يدعو إلى انتخاب رئيسٍ ماروني بذاته. عنده ربّما من أصوات النواب ما يؤهّله، مع حلفائه الموضوعيين، الجدد والمستجدّين، لتأمين النصاب القانوني، وانتخاب رئيس في الدورة الثانية من الاقتراع، بالنصف زائداً واحداً. ليش لأ!
ليس وحده زعيم “تيار المستقبل” مَن يستطيع ذلك. “حزب الله” وزعيم حركة “أمل” الشيعيان، يستطيعان ذلك. كما زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي الدرزي. في مقدورهم جميعاً، بكتلهم النيابية المرجِّحة، مع بعض “فتات” المسيحيين، أن يختاروا للمسيحيين رئيساً مسيحياً. هؤلاء مثلاً، لن يخطر في بالهم أن “يكرّموا” المسيحيين، بأن يختاروا لهم – أعوذ بالله – مرشحاً وطنياً محترماً من خارج الزعماء المسيحيين الأربعة الكبار. كأن يكون رجلاً مفكراً، مدنياً، أو صاحب مؤهلات سياسية من خارج المافيا السياسية. هم – بكلّ صراحة – يريدون للمسيحيين أن يبقوا “تابعين” لهم، في إطار اللعبة التي يتشاركونها جميعاً، أي الغرق في الانحطاط السياسي، أكثر أكثر، وأعمق أعمق. وهذا بالطبع، شأنُ ما يرتضيه لأنفسهم المسيحيون من أهل الفساد السياسي، وما يضمرونه للمسلمين!
وعليه، تستطيع هذه الطبقة السياسية كلّها، أن تجترح العجائب. وهي تستطيع أن تنتخب رئيساً، حتى ولو كان الرئيس المحتمل أو الموعود صديقاً لبشّار الأسد. أقول بالفم الملآن: هذا ليس انتقاصاً من زعيم “تيار المردة”، الذي يعشق الصراحة مثلما أنا أعشقها. يحقّ له أن يكون مرشحاً للرئاسة، وأن يكون رئيساً للجمهورية، وفق هذه المعايير المعمول بها. ومثلما يحقّ لغيره أن يكون وفياً للسعودية، ولغيره أن يكون ظلاً للولي الفقيه وللجمهورية الاسلامية في إيران، يحقّ له أن يؤيّد رئيساً سورياً، أعتبره شخصياً، ويعتبره كثيرون، قاتلاً لقسم كبير من شعبه السوري، وقاتلاً لشعوب أخرى، في فلسطين والعراق ولبنان.
إنه بالفم الملآن، انتقاص علني، ضروري وفادح، من سياسة زعيم “تيار المستقبل” (وزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي)، الذي يُزيَّن له أن يقفز على الحبال السياسية والوطنية المضرّجة بالدماء، والمتأرجحة في الهواء؛ هذا الذي يعتقد كثيرون أنه لا يُحسن نقل حجر شطرنج واحد على مساحة سياسية ثابتة، فكيف إذا كانت رجراجة ومتحركة!
* * *
لقد قلتُ للتوّ ما قلتُه في الطبقة السياسية ذات الانتماءات الطائفية والمذهبية غير المسيحية. أما المسيحيون من أهل هذه الطبقة البالية نفسها، فلهم عندي حصةٌ في الهجاء وافية. حلوةٌ هي المساواة بين المسلمين والمسيحيين، ويجب أن لا يأخذ على خاطر أحد في هذا الهجاء الذي ينبغي له أن يعامل الجميع بميزان الذهب. وأيّ ذهب!
لقد انحطّ المسيحيون انحطاطاً ذريعاً، حتى باتوا مضرب مثل في فساد القيمة وفي الانحطاط السياسي. إذ كيف لطبقةٍ مسيحية سياسية كهذه، أن تقبل زعامتها الدينية بأن تجمع تحت عباءتها أربعة من زعمائها السياسيين (دون غيرهم) في صرحٍ كان يفترض أن يظلّ رؤيوياً ووطنياً، ليقتصر اختيار رئيسٍ للجمهورية على واحد من هؤلاء. يا لعار المسيحيين الذين صنعوا ما صنعوه من أجل المساهمة الجوهرية في إرساء وطنٍ للقيمة والرسالة والثقافة والتنوّع الخلاّق، يكون منارةً فكرية ووجدانية وروحية وديموقراطية، في منطقةٍ تستبدّ بها أنظمة الظلام والقمع والعبودية! فأيّ عارٍ يمكن أن يلحق بالمسيحيين أكثر من عار تمليك هذه الطبقة السياسية والدينية فيهم! كذا أقول، وبالقوة نفسها، عن العار اللاحق بالمسلمين.
على هامش التأجيج المستعر والمستجد في مسألة انتخاب الرئيس، قد لا يكون ممكناً في غمرة الانحطاط السياسي، أن أطالب الطبقة السياسية الطائفية بالتوافق على رئيسٍ يكون مواطناً مدنياً علمانياً. فإنما هذه الطبقة السياسية تنضح بما فيها، وهي لا تنضح إلاّ بروائح الطائفية الكريهة. لكنْ، بما أن هذه الطبقة السياسية الكريمة، حريصة أشدّ الحرص على رئاسة الجمهورية، التي يجب أن يملأ شغورها رئيس “قوي”، فمن حقّي، أنا المواطن المدني العلماني، أن أطالب برئيس قويّ، بقيمه ومفاهيمه ومعاييره المدنية والديموقراطية. ثمة – ودائماً بموجب هذا النظام الطائفي اللبناني – بين الموارنة مَن في مقدورهم أن يمسحوا الكثير من عار الانحطاط الذي لحق بالمسيحيين، كما بالمسلمين جميعاً، فضلاً عمّن لا يرتضون لأنفسهم أن يؤخذوا بقيد طائفي ومذهبي. ثمة بينهم، مَن لا يزال في مقدوره أن يعيد الاعتبار إلى السياسة النبيلة، التي لا تقوم على السرقة والنهب والفساد والتقاسم والتحاصص الطائفي. وثمة مَن لا يزال في مقدوره أن يعيد الاعتبار إلى لبنان، الدولة والجمهورية والفكرة. أليس الوقت السياسي والوطني هو وقت خروج تاريخي من وصمة العار التي تلاحقنا إلى القبر؟!
* * *
أسمح لنفسي بهذا القدر المتواضع من الجرأة والصراحة، إكراماً لذكرى استشهاد جبران تويني. فماذا لو كان بيننا الآن، في غمرة الانهيارات المتتالية التي تصدّع مفهوم لبنان الدولة والجمهورية، كما في غمرة الشغف المستجد بانتخاب رئيس للجمهورية، وماذا كان ليقول لأصحابه قبل خصومه؟ أما كان، يا ترى، كتب، باعتباره صحافياً حراً ونائباً حراً، افتتاحيةً في معنى لبنان، ورئاسة لبنان، وفي معنى أن يحمل الرئيس الموعود، في شخصه المادي والمعنوي، القيم التي يحتفل بها “المواطنون”، وأبناء الأجيال الطالعة، ويتشبّثون بأهدابها، فيرسّخوا إيمانهم بلبنان، كوطن، ودولة، وجمهورية، وكأرضٍ للمعايير والقيم النبيلة في السياسة وسواها؟! فإذا ليس لسببٍ أكتب هذه الافتتاحية، فلسبب الحؤول دون ذهاب استشهاد جبران تويني سدىً، على أيدي أصدقائه قبل الخصوم!