فعلها الرئيس سعد الحريري وقدّم استقالته. في اليوم الثالث عشر، تجاوب مع الطوفان الشعبي الناقم على السلطة ممثلة بوجهها الحكومي، وقرّر أن يقدم رئاسته “هدية” لساحات الاعتراض التي تهتف يومياً ضدّ اسقاط الحكومة. نجح الحريري خلال الأيام الأخيرة في “تبييض” صفحته أمام المنتفضين من خلال إظهار حرصه على عدم إراقة نقطة دماء في الشارع مصرّاً على حماية المتظاهرين ولو هتفوا ضدّه، ما حوّله لحظة تقديم استقالته واحداً من “أبطال الثورة”، بعدما كان في بدايتها، على رأس قائمة “المغضوب عليهم”. مفارقة لن تسجّل إلا في اليوميات اللبنانية.
رغم تأخّره ثلاثة عشر يوماً، لاقى قرار تنحّيه أصداء إيجابية في شارعه الذي انفلش أمس في مناطق نفوذ “تيار المستقبل” فيما بدا “الشارع المنتفض” مزهواً بـ”انتصاره” بعدما “كسر” كلمة السلطة وفرط عقدها. تمكّن الرجل من “إنقاذ” نفسه من نيران الحرائق الممتدة على طول الوطن… ليستعيد مكانته لدى جمهوره. ولكنّه في السياسة، خسر التسوية الرئاسية من جهة وتفاهمه الحديث مع “حزب الله”. وما سرى على الحريري، كان يمكن أن يسري على رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل لو أنّه تعاطى بحكمة مع الأزمة، لكان “قطفها” قبله، كما يقول عارفوه. صحيح أنّ الرجل يتمتع بشخصية غير محببة تجذب “العداوات” من كل حدب وصوب، ولكن في المقابل لا يمكن تجاوز العامل السياسي الذي لعب دوراً بارزاً في “شيطنته” حيث دفع باسيل ثمن خياره السياسي التحالفي مع “حزب الله” ما عرّضه لأقسى حملات التشويه، والتي تمّت بشكل منظم ومحترف يهدف إلى “تصفيته” سياسياً.
وأن يبقى باسيل وحده على قائمة “المكروهين” فتلك إشارة غير بريئة بنظر عارفيه. فيها الكثير من الدلالات السياسية على انحراف أجندة الحركة الشعبية وتوجيهها. ولكن هذا لا يمنع أبداً أنّ الرجل كان عليه تطويق الحملة التي شنّت ضده. لكن الأهم من كل ذلك، هو سلوك رئيس “التيار الوطني” السيئ على المستويين السلطوي والحزبي، ما عرّاه شعبياً عند أول اختبار جدي تعرض له بسبب فقدانه نواة حزبية صلبة قادرة على شدّ العصب من حوله.
ورغم ذلك، كان من الممكن لباسيل التصرف بعقلانية والتخلي عن المكابرة لاستيعاب غضب الشارع وامتصاصه في أيامه الأولى، من خلال الاستقالة مع فريقه الوزاري والدعوة الى تشكيل حكومة تحظى بثقة الشارع. كان من الممكن أن يربح نفسه لو فعلها في تلك اللحظة، ويربح الناس من جديد.
بالنتيجة، تغيّرت قواعد اللعبة. من الواضح جداً، كما حاول رئيس الحكومة المستقيل، إظهاره في بيانه المقتضب، أنّه فشل في تدوير الزوايا للخروج من مأزق التحول في المزاج الشعبي. جرّب أكثر من وصفة حكومية يمكنه بواسطتها إطفاء حريق الهتافات التي عمّت الشوارع اللبنانية، ولكنه لم ينجح.
يقول أحد الوزراء المطلعين إنّ الحريري لم يفاجئ سامعيه. إذ أبلغ من يعنيهم الأمر منذ ليل الاثنين الماضي، أنّه لن يكون بمقدوره الثبات في قيادة “المركب” الآخذ في الغرق. ولا بدّ من خطوة صادمة من شأنها أن تهدئ غضب الجمهور. ويذهب أحد النواب المتابعين للتأكيد أنّ الحريري وجّه أكثر من تحذير خلال الأسبوع الماضي بضرورة تعديل الحكومة أو تغييرها اذا اقتضى الأمر لتفادي الأسوأ. لكنه كان يواجه على الدوام بعلة أساسية وهي رفض باسيل الخروج من الحكومة.
يؤكد النائب ذاته أنّ تعنّت رئيس “التيار الوطني الحر” كان حجر العثرة الذي حال دون تجديد التسوية الرئاسية وتنقيحها من بعض الوجوه الأساسية.
ويؤكد الوزير المطلع أنّ الاستقالة لم تكن منسقة مع شركائه الحكوميين وتحديداً “التيار الوطني الحر” والثنائي الشيعي، بمعنى أنّ هؤلاء غير موافقين على تلك الخطوة، وكانوا يفضلون لو أنّ رئيس الحكومة تريّث في موقفه إلى حين ايجاد معالجات جدية. وبالتالي إنّ إعادة تكليفه لرئاسة الحكومة غير متفاهم عليها، وقد يفتح قرار الحريري الأحادي الجانب، الباب أمام سيناريوات تكليف جديدة. في المقابل، فإنّ رئيس “تيار المستقبل”، وفق الوزير ذاته، شبه متيقّن أنّ التضحية بالحكومة سيريح الجمهور ويعيده إلى المنازل تمهيداً للبحث في كييفة إعادة ترتيب السلطة. ويضيف: لذا علينا الآن انتظار رد فعل الناس وكيف سيتصرفون إزاء خطوة رئيس الحكومة، ومن بعدها لكل حادث حديث.