لن يمحى بسهولة من ذاكرة أهالي مقاتلي «حزب الله» مشهد الطفل الذي تم تداوله في وسائل الإعلام أمس وهو يُمسك بنعش شقيقه الذي قُتل في سوريا، ويبكيه بحرقة في مشهد يُدمي القلوب ويترك في البال ألف سؤال وسؤال عن أطفال لم يتسنَّ أن يترعرعوا في أحضان عائلاتهم وعن حياة قست عليهم ووضعتهم أمام خيار وحيد عنوانه «مشهديّة الموت منذ الصغر».
البحث عن هويّة القتيل ومدى القرابة التي تجمعه بالطفل تُصبح أمراً غير ذي أهميّة أمام هول الفاجعة التي نزلت بالفتى الذي ارتمى على نعش شقيقه محمد قاسم ياسين ابن بلدة كفرتبنيت الجنوبيّة الذي عاد من «واجبه الجهادي» في سوريا ملفوفاً بعلم «حزب الله» وأبى أن يُفارقه إلّا عند وصوله إلى جبّانة البلدة، فكان حاله كمن يتوسّل الموت بأن يترك له أخاه وهو يُخبره بأنّه لم ينعم بعد بحياة تجمعه به ولم يختبر حقيقة شعور الأشقّاء في السرّاء والضرّاء.
هو مشهد بات ظاهرة تتكرّر على الدوام في قرى وبلدات لبنانيّة. أطفال بعمر الورود يرثون أقارب لهم، فيبكونهم بألم ويُعبّرون عن حزنهم بدموع تحبس الأنفاس. طفولة سُرقت منها براءتها وجرت «برمجتها» على تقبّل الموت وكأنّه تُراث يُفاخر به. أطفال يتم العمل على أدلجتهم ليتدرّجوا لاحقاً في الصفوف القتاليّة، مرّة عبر تسليمها بذّة الوالد القتيل وبندقيّته وكأنّه إرث مكتوب عليهم، ومرّات عبر زرع صورة الموت في عقولهم من خلال قصص وروايات خياليّة الهدف منها جعل هؤلاء الأطفال على تماس مع القتل والإقبال على فكرة «الاستشهاد» عوضاً عن التوجّه إلى التحصيل العلمي في المدارس والجامعات.
بالتأكيد إن صورة الطفل هذه لن تغيب عن بال كل من وقع نظره عليها وستبقى محفورة في وجدان الكثيرين لسنوات طويلة، لكن ماذا عن الطفل نفسه وغيره من الأطفال الذين خرجت من منازلهم جنازات الموت في الأربع سنوات الماضية، من سيُخبرهم عن حقيقة مقتل أقاربهم على غير الحدود الواقعة مع العدو الإسرائيلي وعن رجال تم اقتيادهم تحت ذريعة «الواجب الجهادي» الى بقع الاستنزاف والموت ليموتوا غرباء عن أهلهم ووطنهم ومن ثم يعودون مُحمّلين الى آخر محطّات حياتهم من دون أن ينعموا بنظرة أخيرة من أبنائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأطفالهم.
بالأمس كان التعاطف مع صورة الطفل ياسين عنواناً بارزاً في التعاطف بين جميع مكوّنات الشعب اللبناني، لم يكن هناك متسع من الوقت لتوجيه انتقادات لدى مشاهدته على شاشات التلفزة وهو يرفض النزول عن نعش شقيقه، مشهد أعاد الى الأذهان صورة الطفل «علي رضا» ابن السنة من قرية كونين الجنوبيّة وهو يحبو على نعش والده الذي قتله «الواجب الجهادي» هو الآخر، وما بين المشهدين أطفال يزفوّن آباءهم وأشقاءهم الى أماكن يُراد لها أن تُصبح جزءاً من وجدانهم وذاكرتهم.
هي إذاً ثقافة موت باتت تتسيّد العديد من قرى وبلدات الجنوب والبقاع ومناطق في الضاحيّة الجنوبيّة، ثقافة ترفض الاعتراف بأحقية الأطفال في العيش بحياة تُشبههم وتُشبه أحلامهم الصغيرة، ثقافة تبدأ بالتدرّج من كشّافة «المهدي» عماد برنامج ضبط حركة الأطفال قبل انخراطهم في العمل العسكري، وما الصور والمشاهد التي توزّع على الإعلام لأطفال يبكون أقاربهم سوى مدماك أولي على طريق الموت والنزعة الى القتل.
هي أيضاً ثقافة حفر القبور ما قبل الموت وتهيئتها بانتظار العودة اليها، ثقافة كانت انتشرت عبر مواقع تابعة لـ»حزب الله» للشاب أحمد الأمين المعروف بـ»أبو تراب» وهو يقوم بحفر قبره ويلتقط صورة له في داخله قبل أن يعود ويُدفن فيه إثر مقتله في القلمون.