إبّانَ الشغورِ الرئاسيِّ كان البلدُ هادئاً من دون تسوية. اليومَ، البلدُ متوتِّرٌ رغم وجودِ تسوية… ورئيس. خَرجنا من الشغورِ الدستوريِّ وبَقينا في الشغورِ الوطنيّ.
هذا يَعني أنَّ أطرافَ التسويةِ توافَقوا على الحُكمِ من دون أن يتّفقوا على برنامجِ حُكمٍ، وأن التسويةَ حالةٌ مجازيّةٌ أوْهَمونا بها لتغطيةِ انحناءةٍ سياسيةٍ ونَزوةٍ شخصية. ولَكَم خرَّبت النزواتُ عائلاتٍ وبيوتاً وأحزاباً وعهوداً وبلداناً، خصوصاً حين تكون صنعَ أشخاصٍ فَقدوا الصبرَ وافتَقدوا التجرِبة. فما هي هذه التسويةُ الرئاسيّةُ والحكوميّةُ التي لم تَشمُل ـ على الأقلّ ـ قانونَ انتخابٍ جديد؟
في ما مضى، كانت الحكمةُ أقوى من الخِلافات، والمسؤوليةُ تَكبَحُ الرُعونةَ، والاحترافُ يَطغى على الهِواية، والحَياءُ يَردَع نَهَمَ السلطة. كانت الصراعاتُ تحت سقفِ الدولةِ، والمؤسساتُ في حِمى الدستور. كانت التحالفاتُ طبيعيةً وصادقةً إلى حدٍّ ما، فأصبحت مصطَنعةً ومخادِعةً إلى أقصى حدّ. اليومَ، الوِدُّ على اللسانِ والخُبثُ في العيونِ والكراهيّةُ في القلوبِ والغَثَيانُ في المَعِدَة والطعنُ في الظَهر والناسُ على الحضيض.
أخذونا إلى أمكنةٍ هَجَرناها حتى في أيامِ الحروبِ والشغورِ، وإلى أزمنةٍ ظَننّا أنَّ دماءَ شهدائِنا طَوتْها إلى الأبد، وإلى مواجهاتٍ تتعدّى طاقتَنا ومناعتَنا وتُخالِف المصلحةَ الوطنيّة. بات لِزاماً مكافحةُ الفسادِ الوطنيِّ مثلَ مكافحةِ الفسادِ الإداريّ. لكنْ أين سنجِد في السوقِ المحليّةِ نقولا تويني آخر؟
ما احترمَ أحدٌ فترةَ السَماحِ التي تُمنحُ تاريخيّاً لكلِّ عهدٍ رئاسيٍّ جديد، عِلماً أن نَسَبَ العهودِ تَغيَّر بعد دستورِ «الطائف». يومَ كانت الصلاحياتُ معقودةً لرئيس الجُمهوريّة كانت كلمةُ «العهد» لصيقةً بالرئيس، وتالياً كان هو المسؤولُ عن نجاحِ عهدِه أو فشلِه. أما والصلاحيّاتُ أصبحت في مجلسِ الوزراءِ، فالمسؤوليةُ انتقلت إليه وعليه. وبات الأصحُّ أن نقولَ عهدَ حكومةٍ في ظلِّ ولايةٍ رئاسيّة.
إن سلطةَ رئيسِ الجُمهوريّة محدودةٌ في اختيارِ رئيسِ الحكومة والوزراءِ، في توزيعِ الحقائبِ، في تحضيرِ جدولِ الأعمال، وفي حسمِ القرار. وحكوماتُ
ما بعدَ «الطائف» هي حكوماتُ الكُتلِ النيابيّةِ وليست حكوماتِ رئيسِ الجُمهوريّة، بل هي أحياناً ضِدَّه.
هكذا، يُمكن أن تَفشَلَ ولايةُ رئيسٍ ناجحٍ وقويٍّ إذا فشِلَت حكوماتُ ولايتِه، ويُمكن أن تَنجحَ ولايةُ رئيسٍ فاشلٍ وضعيفٍ إذا نَجحَت حكوماتُ ولايتِه. في ما مضى، كان للرئيسِ أن يُفشِّلَ الحكومات أو يُنجِّحَها، بعد «الطائف» يَحصُل العكس.
انتُخِب الرئيسُ الجديدُ ولم يَنطلِق عهدُه بعد. لا الّذين انتخَبوه يُساعدونه، ولا الّذين مرّوا بتجربتِه يؤازِرونَه، ولا حتى الّذين شَغِفَ بهم يُسْعِفونه. عِوضَ أن
يَستعملَ صلاحيّاتِه إيجابياً، يُضطَرُ الرئيسُ، أيُّ رئيسٍ بعدَ «الطائف»، إلى أن يَستعملَ ما بقيَ له منها بشكلٍ تحذيريّ للتذكيرِ بمرجِعيّتِه العليا ولحَثِّ القوى السياسيةِ على إجراءِ إصلاحات؛ فيبدو كأنّه رئيسُ كُتلةٍ معارِضةٍ للفريقِ الحاكم: يُهدِّدُ بالفراغِ، يَرفضُ توقيعَ مرسومِ دعوةِ الهيئاتِ الناخبةِ على أساسِ قانونِ الستّين، يُهوِّلُ بالقانونِ الأرثوذكسيّ، يُجمِّدُ مجلسَ النوّابِ شهراً استناداً إلى المادّةِ 59 من الدستور، ويُلَوِّح حتى بالشارع. ومع ذلك لا يَتَّفِقون، فكلٌّ واحدٍ يُغنّي على مصلحتِه، بمن فيهم ذوو القُربى.
قبلَ دستورِ «الطائف»، كانت قوّةُ رئيسِ الجُمهوريّة بتوقيعِه على القوانينِ والمراسيمِ والمشاريع، أما اليومُ فقوّتُه بعدمِ التوقيعِ عليها. إنها لحالةٌ هجينةٌ أن يَضعَ «الطائفُ» المرجِعَ المؤْتمنَ على الدستور، أي رئيسَ الجُمهوريّة، بمواجهةِ الدستور.
وإنها لحالةٌ لافِتةٌ كذلك أن يَحميَ رئيسُ الجُمهوريّة نفسَه ودورَه وموقعَه بشرعيّةٍ شعبيّةٍ بموازاةِ الشرعيّةِ الدستورية. إنّ رؤساءَ الجُمهوريّة اليوم مُخيَّرون ـ مُكرَهين ـ بين البَصمِ على ما يأتيهم من مجلسَي النوابِ والوزراء وبين ردِّه سلباً. وأسطعُ دليلٍ إشكاليةُ عدمِ التوقيعِ على إجراءِ الانتخاباتِ بقانونِ الستّين أو على التمديد للنوّاب.
الأكثريّةُ الرئاسيّةُ تَتحوَّل تدريجاً نحو أكثريّةٍ معارِضَةٍ وتَتصرّف حِيالَ العهدِ كأنّها في «حربٍ باردة» معه. فبعدما رَفعَت شعارَ «المرشّحِ القويّ» تكتيكيّاً، عادت إلى واقعِ «الرئيسِ العاديّ».
هكذا، نرى قِوى معيَّنةً تعيدُ ترسيمَ حدودِ القوّة وسقفِ السلطة، تتحدّى الدولةَ بالمظاهرِ والمواقف، تلعبُ دورَ المُرشِد وناظِمِ العَلاقات بين الأطرافِ السياسية، تَسمَحُ بإنجازاتٍ رديفةٍ كقانونِ النفطِ بدلَ قانونِ الانتخابات، تُسهِّلُ صدورَ تعييناتٍ هي استحقاقاتٌ لا إنجازاتٌ، وتَمنعُ الانجازاتِ الحقيقيةَ والاصلاحَ الفعلي. فرجاءً، خُذوا الصلاحيّاتِ واعطُونا إصلاحات!
مجموعُ هذه التصرّفاتِ المتعَمَّدةِ تهدُف إلى إبقاءِ الأوضاعِ الأمنيّةِ والسياسيّةِ والاقتصاديّةِ على حالِها، فلا يُميِّز اللبنانيّون بين الشغورِ وانتخابِ رئيسٍ، ولا يعتبرون أنّ منصِبَ رئاسةِ الجُمهوريّة ضرورةٌ وطنيّة وحاجةٌ ملازِمةٌ لتقدّمِ البلدِ وبناءِ الدولةِ، ولحمايةِ الاستقرارِ والاستقلال، حتى لو كان الرئيسُ ميثاقيّاً وقويّاً. هذه هي خريطةُ الطريقِ نحو تغييرِ بنيةِ الدولةِ اللبنانية بدون مؤتمرٍ وطنيّ.
والعجزُ عن وضعِ قانونٍ انتخابيٍّ جديدٍ (حتى الآن) هو عجزٌ مصطَنعٌ يَستهدِف النظامَ اللبنانيَّ بأسرِه. صحيحٌ أنَّ المُهلةَ الدستوريّةَ لوضعِ قانونِ انتخابٍ تَتجدَّد، لكنَّ المُهلةَ الأخلاقيّةَ لوضعِ قانونٍ للناسِ لا تتجدّد.
دخلت البلادُ أخيراً مِنطقةً دقيقة. غيومٌ داكنةٌ تَحجُب شمسَ العهد. اختَلطَ مفهومُ القويِّ مع مفهومِ الضعيف، وموقِعُ الحَكَم مع موقعِ الفريق، والشعورُ بالبدايةِ مع الشعورِ بالنهاية، والإحساسُ بالإنقاذِ مع الإحساسِ بالغرَق.
سُرِرنا ببروزِ تحالفاتٍ حديثةٍ تخطَّت الانقسامات، لكنّنا لا نَلمس الفارقَ بعدُ بين الحليفِ والخصْم. صراعاتٌ مفتوحةٌ ومكتومةٌ تُذوِّب مركزيّةَ القرار. نعرِف من همُ الرؤساءُ، ونَعرف بالمقابِل من يَحكُم البلد. ازدواجياتٌ لا ازدواجيةٌ واحدةٌ وظِلالٌ لا ظِلٌّ واحد. ولولا شخصيةُ الرئيسِ لفتحَ بعضُهم فروعاً لقصرِ بعبدا.