هكذا إذاً، تجرّأ الكاوبوي الأرعن أخيراً حيث تردد كل أسلافه منذ 1995. ذلك العام، أقرّ الكونغرس قانوناً بنقل سفارة الولايات المتحدة الأميركيّة من تل أبيب إلى القدس المحتلّة. لكنّ أيّاً من نزلاء البيت الأبيض لم يمتلك ـــ منذ ذلك التاريخ ـــ الجنون الكافي، وقلّة المسؤوليّة والوعي والادراك، والأميّة السياسيّة البلا قرار، والغطرسة الاستعماريّة المنقطعة النظير، ليصدّق على القانون ويضعه في حيّز التنفيذ.
وإذا كان أسلاف ترامب قد تلكّأوا، فهم لم يفعلوا حبّاً بفلسطين طبعاً، ولا تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني وحقوقه الشرعيّة، ولا تضامناً مع العرب الذين يعتبرون القدس قبلتهم السياسيّة والقوميّة، وجوهر قضيّتهم المركزيّة، على مختلف المستويات الرمزيّة والعاطفيّة والتاريخيّة والدينيّة. فأميركا لم تتخلّ يوماً عن حماية هذا الكيان الاصطناعي المزروع في قلب الأمّة العربيّة، وترسيخه، والدفاع عن مصالحه ووجوده بكافة الوسائل الدبلوماسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة والأيديولوجيّة. إن ما حال دون إقدام الأدارة الأميركيّة، منذ 22 عاماً، على هذه الخطوة المتهوّرة، الانتحاريّة، كان دائماً «مصالح أميركا»! بمعنى آخر، كانت أميركا تخاف من غضب الشعوب العربيّة، لو ارتكبت ذلك الخطأ القاتل. فما الذي تغيّر اليوم؟ وإلى أي مدى يمكننا أن نصف بـ«المقامرة» إقدام لاعب «الروديو» المجنون على الاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل»؟
دونالد ترامب هو أبلغ تعبير عن الوجدان الأميركي العميق للأسف. هو ربيب العقيدة السياسيّة في بلد تأسس على المجزرة، تماماً مثل إسرائيل. عقيدة تقوم على سحق الأضعف لمراكمة الثروات، وإذلال الشعوب، واستعمال التكنولوجيا لاستعمار الشعوب ونهب مقدراتها وتحويلها إلى عبيد لقيم الامبراطوريّة ومستهلكين لبضائعها. لكن كان هناك دائماً منمّقات، وتمويهات، وتبريرات أيديولوجيّة، تحفظ ماء الوجه، وتخدع «الأكثريّة» وتقولب الوعي، مع مراعاة قواعد «اللعبة الديمقراطيّة»، وأدبيات احترام «حقوق الانسان». ترامب، هو، يجرؤ حيث حلم الآخرون، وحيث وعد الآخرون وتملّصوا كالجبناء. هذا الرأسمالي المفترس، هو ثمرة الثقافة الأميركيّة والليبراليّة المتوحّشة، والفوقيّة العنصريّة البيضاء، والغطرسة الاستعماريّة، والاحساس بالقوّة والثقة والتفوّق، يضاف إلى ذلك غوغائيّته وشعبويّته وجهله. أي إن كل الصفات متوافرة لديه، للإقدام على «ارتكاب الفعل»، وتحقيق الرغبة الرابضة في اللاوعي الأميركي. كان لا بد من مجنون مثله ليست لديه ضوابط، كي يتجرّأ على المحظور، ويهدي القدس التي لا يملكها، إلى الكيان الغاصب الذي صادر بلاداً كاملة، تحت غطاء «الشرعيّة الدوليّة»، منذ منح بلفور تلك «الأرض البلا شعب… إلى شعب بلا أرض»، حسب المعادلة التي تختصر أبشع جرائم التاريخ منذ أوشفيتز. من هنا إن المقارنة في مكانها، حين نعتبر جريمة ترامب، ومن خلفه جريمة كل أميركا الرسميّة ونخبها ومصالحها، التي ينبغي أن تدفع ثمنها، بمثابة «وعد بلفور» جديد… له كل الحظوظ أن يتجسّد أمراً واقعاً، كما سابقه، إذا لم يكن العرب قد تعلّموا من دروس التاريخ.
لكن جنون ترامب وغطرسته الرعناء لا يفسران كل شيء. علينا أن نعترف بأن الملياردير الأشقر ذا الشدقين الفاغرين، والرأس الفارغ، قطف ثمار كارثة اسمها «الربيع العربي» المجهض. لم يعد الغضب الشعبي العربي يخيف مسخ البيت الأبيض. فما ظنه كثيرون بيننا رياح التغيير التي تهب على مجتمعاتنا المتخلفة وأنظمتنا السياسية المستبدة، استحال كابوساً ضاعف التخلّف والبؤس والظلم والاستبداد، وفتّت مجتمعاتنا، وشتّت نخبنا، ومزّق شعوبنا، وزلزل أوطاننا، وأرجعنا قفزات هائلة إلى الوراء، وأغرقنا في مستنقع العصبيات والفتن…. وباختصار ضرب إرادتنا الوطنيّة والقوميّة، حتى كدنا نفقد بالكامل بوصلة فلسطين. حدث ذلك في لمح البصر، في سنوات قليلة. انهارت الأنظمة البالية وأخذت معها كل شيء، حتى الدول والشعوب والآمال بمستقبل أفضل، وباستعادة فلسطين وحقوقنا المسلوبة. وضاعفت الوصايات الأجنبيّة، وعزّزت موقع إسرائيل. وحين نسمع ونقرأ في الاعلام الغربي، وإعلام العدوّ، أن ترامب اطمأن من الحكّام العرب إلى أن ردود الفعل على جريمته الفظيعة ستكون ضئيلة، فهذا وحده يختصر ببلاغة الانهيار العظيم. يخيّل لأميركا وإسرائيل أننا شعوب منهكة، ممزقة، مخدرة، عاجزة عن أي رد فعل، متنازلة عن كل الحقوق، مستسلمة للمصير الذي يختاره «الأخ الأكبر» في واشنطن، بمساعدة «الدب الداشر» في الرياض، وسائر الأعاريب وأهل الانحطاط.
يبقى أن «اغتصاب» القدس، عاصمتنا الأبديّة، كما لم يخطر ببال أرعن واشنطن وأرعن الرياض، من شأنه أن يجعل السحر ينقلب على الساحر. هذه الصدمة العظيمة لا بد من أن تجرّ شعوبنا إلى صحوة طال انتظارها، فتنقلب على الاحتلال ورعاته وعملائه. خطوة ترامب أنهت أكذوبة «السلام»، وكما استنتج أمس السيد حسن نصرالله وإسماعيل هنيّة، أنهت «أوسلو». أوسلو ماتت عياديّاً مع اغتيال ياسر عرفات، لكنّها بقيت في الإنعاش القسري حتّى اليوم، ولم ينتزع المفاوضون مكسباً واحداً، بل أعطوا كل شيء. ولعلّها فرصة ثمينة للعودة إلى ما قبل مهزلة «السلام مع إسرائيل». إن السلام الوحيد الممكن هو تحرير فلسطين. وها هو المهرّج الدموي ترامب يحثّنا على استعادة الوحدة الأهليّة، والتخلّص من أوزار «الربيع العربي» المنحول، وأهواله المذهبيّة. إنّه وقت المصالحات الوطنية، والغضب الشعبي الحقيقي. خطوة ترامب هي الصدمة الايجابيّة التي كنا نحتاج إليها لنتذكّر من هو العدو، ومن هو أصل البلاء… لنعود أمّة موحّدة ضد العدو الوحيد الأوحد، من «حماس» في فلسطين المحتلة إلى «حركة النجباء» في العراق المحرر… أمّة في الشارع، كما رأينا أمس، من قفصة إلى غزّة، وكما سنرى اليوم في الطريق الجديدة في بيروت، معقل العروبة، وفي كل شوارع لبنان، والعواصم العربيّة في الأيّام المقبلة.
هل نحلم كعرب، وكلبنانيين، باستعادة وحدتنا؟ الرئيس سعد الحريري الذي أنار السراي الكبير بصور المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، هل نحلم برؤيته يوم الإثنين، وفوق صدره صورة رفيق الحريري، على رأس المتظاهرين في الموعد الوطني الكبير الذي دعا إليه سيّد المقاومة في الضاحية الجنوبية لبيروت؟ نعم، هيّا إلى الانتفاضة الثالثة، بالقبضات والحناجر والسكاكين والصواريخ. ليس فقط في أنحاء فلسطين. يجب أن يسقط ترامب مع سياساته الفاجرة. يجب أن تسقط رؤوس الحكام العرب الذين باعوه حقوقنا مقابل عروشهم وسلطتهم. يجب أن تعود إسرائيل إلى خانة الكيان المذعور المتقوقع الذي بدأ العد العكسي لنهايته. لعلّها فرصة العرب التاريخيّة، فرصتهم الأخيرة… أن يستعيدوا القدس من كل الوصايات والاحتلالات والخيانات. إن القدس هي لمن يستحقّها. فهل نحن جديرون بها؟ إذا فقدناها هذه المرّة، فستكون المرّة الأخيرة، وسنخرج حفاة عراة ليس من الجغرافيا والتاريخ فحسب، بل من مستقبل البشريّة.