Site icon IMLebanon

ليتَ الصدرَ عاد

ظله المدهش، فكيف قامته؟ صمته العميق، فكيف كلامه؟ تتذكره، فيحضر محفوفاً بهالة وابتسامة. تطمئن إلى ما في عينيه من نطق، وما في قلبه من ايمان، وما في عقله من معرفة. تنسى أنك من دونه منذ عقود أربعة.

تحدّثه، فتسمع منه ما يجعل الدين سهلاً جداً، طيباً جداً، إنسانياً جداً، متواضعاً جداً، تخلو عنده المعتقدات المعقدة. تكتشف عنده شكلاً للدين محتضناً من محتواه، لا العكس. كأنه ليس ممن يعتمرون ويؤنّبون ويحدّدون ويهوِّلون. سمِحٌ دينه، منبسط مثله، لا يحتاج إلى تفسير وتشريح. تكتشف أنه جديد دائماً، مختلف دائماً، وموجود دائماً. لا يشبه إلا نفسه، ويصعب تقليده. نسيج وحده. لم يعرف لبنان رجلاً صنوه.

تسأله، جوابه، إما أخوي أو أبوي، بلا أمرة في الرأي. تصغي إليه، تطربك لكنته، وتسحرك لفته، وتحثك فكرته. ليس طوباوياً ولا واقعياً. يرى ما حوله، ولا يقنع بما أمامه فقط. ليس أحادياً. تشيُّعه لا يلغي تطلعه إلى مسيحية نقية وإنسانية بحقوق معاصرة. لولا العمامة والعباءة، لظننت أنه من عصر الأنوار… يا للظلمات التي يرتع فيها الكثيرون، بتعدّد مذاهبهم وأديانهم وفتاويهم.

تطلب منه، فيجود. لا يبخل بلقاء ولا يعلو على طالب. لم يسأل عن ديني أو طائفتي عندما دعوته إلى محاضرة في بلدتي مشغرة. كنت علمانياً مفرطاً وما أزال. لا أبدّل تبديلاً. كم كان موقفه جليلاً. أحترم وعده، وحضر إلى بلدتي. كان ذلك في أواخر الستينيات. استاء الوجهاء من وقاحة علماني، حاولوا إقناعه بالعدول. اشترطوا ألا تكون المحاضرة في قاعة السينما. السينما مكان خلاعة. اشترطوا أن يستقبلوه هم ويستضيفونه في بيت وجيه… رفضت وقبل. واقترحت عليه أن تكون المحاضرة في الحسينية، وتولّيت تقديمه، غضبوا مني وعتبوا عليه. لكنهم بعدما سمعوه، عرفوا الإسلام، داراً واسعة، تتسع للمؤتلفين والمخالفين.

تسأل عنه، فيجيبك الغياب. بعيداً صار. الارتكاب المزمن، لم يمح صورة الصدر الذي كان. ليس غريباً أن لا يرثه أحد، حالة من الفرادة والوضوح والقناعة. هو كذلك، لذا انفتحت أمامه أبواب كانت مغلقة. انفتحت برحابة الفكر والعقل والتراحم، ولم تنفتح بتقليد ديبلوماسي، اعتاد اللبنانيون على إظهار ثقل كياستهم المصطنعة، عندما يتلاقون… فتحت أمامه برحابة وحرارة أبواب الجامعات. حلّ فيها كأنه منها، لا ضيفاً عليها. التقت معه وحوله، أصوات نخب فكرية وثقافية وحزبية، وافتتح بهذه الأصوات المرافقة، من كل المذاهب والمشارب، معركته من أجل «الإصلاح»… ولقد كان ذلك من المستحيلات. هذه بلاد لا يصلح أمرها رجال دين أو رجال فكر أو رجال قيم… إنها الأرض الملعونة والمتروكة لشياطين الطوائف والمذاهب المتعادية علناً، والمتعاونة سراً على الكسب غير المشروع باسم الشرعيات المستعارة.

تمتحن مواقفه، تراه معتكفاً أو مُضرباً عن الطعام، أو متقدماً الصفوف. ضد العنف في الداخل، مع المقاومة ضد إسرائيل. ينطلق ذلك، من موقف إنساني ووطني. لبنانه على قياس تاريخه ومكوناته. يشترط التوازن الطائفي وإلغاء الحرمان، ليكون لبنان وطناً… لم يحصل ذلك ولن. الطوائف يا صاحب السماحة لا تنتج أوطاناً بل تخرّبها. انظر إلينا الآن، وسترى أي بلاد نحن. لم يعد فيها شيء جديراً بالاحترام، باستثناء المقاومة في مواجهة العدوان الإسرائيلي.

تطالب بمعرفة مصيره. لا أعرف شيئاً. عبارة الإمام المغيب كانت مقنعة. لم تعد كذلك، عبارة الإمام المستعاد أفضل واستعادته تعني العودة إلى روح الصدر، بقوة صوته وموقفه في مواجهة إسرائيل، وبانفتاح ذراعيه لمكونات الحياة اللبنانية، ومكان التقاء النخب والمثقفين الداعمين لحوارات مجدية وبناءة وإنسانية.

لم أكن من أتباعه، أنتمي إلى ما لا يمتّ إلى دين بصلات سياسية. مكتفٍ بالفتات العلماني وقانع بالفقر الوطني وملتزم بعدم التمييز الدائم، بين الناس. لا أرى فرقاً بين مسلم ومسيحي ويهودي وبوذي. هذا عالم اتفاداه سياسياً وأرادوه معرفياً، ومكتفٍ منه بثرائه الكبير. الأديان ثروة لمن يعرف كيف لا يبدّدها.

لم أكن من أتباعه، لأنه كان بسحر كلامه وتواضع هامته واقترابه الأنيق والواثق من الوقائع، قادراً على الجذب الجماهيري، بالتقليد المذهبي. وهكذا كان. فانسحب الكثيرون من عقائدهم لصالح معتقداتهم… وكان ما كان.

وبرغم كل ذلك… كان الصدر علامة فارقة في تاريخ لبنان لا يمكن قراءة فصول لبنان، من دون قراءة الصدر. هل يستطيع أحد أن يستعيد الصدر، ليتصدَّر حضوره، في ما انقطع بين اللبنانيين؟

ليت ذلك. ليت الصدر عاد. الوطن بحاجة إلى جرعة من الهواء.