ضعضعت الإنتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة قادة الطائفتين المسيحية والسنيّة، أكثر من الطوائف الأخرى المتعايشة معها في هذا البلد، فاعتبر المنتصرون فيها أنّهم هم قادة طوائفهم ولا أحد سواهم. فما قام به وزير العدل المستقيل أشرف ريفي بعد انتصار عدد كبير من مرشّحي اللائحة التي أيّدها وهي «قرار طرابلس»، من تكريس نفسه، أو على الأحرى تكريس المملكة العربية السعودية له كـ «الزعيم السنّي الجديد والأوحد للبنان»، جعل الزعماء السنّة أنفسهم يتساءلون عن هذا التغيير المفاجىء الحاصل من دون أي مبرّرات منطقية.
أمّا القادة المسيحيين فقد قرأ كلّ منهم نتائجها بحسب مناطقهم ومدى تأثيرهم على الناخبين فيها، من دون أن يعتبر أي منهم أنّه الزعيم الفعلي للمسيحيين دون سواه، انطلاقاً من مبدأ أنّ الانتخابات البلدية تختلف في نتائجها عن تلك النيابية، إذ تتغيّر معها المعطيات والإعتبارات الكثيرة. ولهذا فلا يعتبر هؤلاء أنّ نتائج العملية الإنتخابية التي حصلت ستتكرّر هي نفسها في النيابية، ولو حصلت وفق قانون قديم هو قانون الستين.
وفي ما يتعلّق بالتنافس الجديد على تزعّم السنّة في لبنان بين ريفي ورئيس «تيّار المستقبل» النائب سعد الحريري، بعد أن كان موزّعاً بين خمسة أو ستة زعماء، فإنّ هذا الأخير لا يستعجل حرق المراحل، على ما تقول أوساط ديبلوماسية مراقبة وخصوصاً أنّه يُدرك قدر محبته ومعزّته من قبل المملكة، وإن ارتأت أن تُحدث تغييراً في عاصمة الشمال يتلاءم مع بعض التحوّلات التي طرأت على بعض دول المنطقة، فاختارت ريفي دون سواه من الزعماء التقليديين.
في الوقت نفسه، فإنّ المملكة تُدرك أنّه ليس من أي تأثير لزعيمها الجديد أي ريفي على المجلس النيابي الحالي. فلو قرّر الحريري، على سبيل المثال، الإصطفاف الى جانب حليفه المسيحي أي رئيس حزب «القوّات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع في دعم ترشيح العماد ميشال عون والإيعاز لكتلته بالذهاب الى مجلس النوّاب في الجلسة الأربعين لانتخاب الرئيس التي حُدّدت في 23 حزيران الجاري، وانتخاب الجنرال رئيساً للجمهورية، فإنّه سيتمكّن حتماً من الوصول الى قصر بعبدا مع دعم بقية الحلفاء له وعلى رأسهم «حزب الله».
لا شيء مستحيل في السياسة، على ما تضيف الأوساط، فقد سبق وأن شهدت الإنتخابات البلدية الأخيرة توافقاً بين «المستقبل» و«القوّات» و«التيّار» على دعم «لائحة البيارتة» في بيروت، وقد فازت. ولهذا فلا أحد يُدرك تماماً ما سيكون عليه تصرّف الحريري في المرحلة المقبلة، إذا ما أصرّت السعودية على الإبقاء على ريفي زعيماً للسنّة في طرابلس، وهو زعيم للطائفة في بيروت.
ولكن فإذا كان تأييد الحريري لترشيح رئيس «تيّار المردة» النائب سليمان فرنجية، لم تستطع المملكة أن «تبلعه»، فكيف ستتصرّف إذاً في حال قرّر الحريري تبديل مرشّحه للرئاسة، ودعم ترشيح الجنرال عون الذي تضع عليه «فيتو» قد يكون أبدياً، على ما تساءلت الأوساط نفسها. لعلّها عندها لن تغفر له مثل هذا التصرّف الاحادي والكيدي مطلقاً. حتى أنّ الحريري نفسه، لا ولن يذهب الى حدّ أن «يُنكي» السعودية، على ما أكّدت، ويتفرّد بموقف مهمّ كهذا، لما لها من فضل على والده الشهيد رفيق الحريري، وعليه في السياسة والإقتصاد. وهي إن بدّلت قراراتها فلكي تتناسب مع المرحلة المقبلة في المنطقة التي قد لا تأتي في النهاية وفق حساباتها.
فالأمر الحاسم هو أنّ الحريري لا يزال يملك مفاتيح «تيّار المستقبل» وفريق «14 آذار» في مجلس النوّاب، رغم ما طرأ أخيراً على مدينة طرابلس، وفي حال قرّر المجلس النيابي الحالي خوض الإنتخابات الرئاسية من دون انتظار التوافق على قانون جديد للإنتخاب، فإنّ المملكة ستكون بحاجة الى حليفها الحريري لإيصال المرشّح الذي تدعمه. ولا يحصل هذا الأمر من دون موافقة الكتل النيابية والأطراف الأخرى، إن عبر تأمين النصاب القانوني للجلسة أولاً، أو تأمين غالبية الثلثين ثانياً في الدورة الأولى وسوى ذلك.
في المقابل، فإنّه على السعودية في حال ارادت توسيع دائرة «زعامة ريفي السنيّة» أن تدعمه كثيراً في الإنتخابات النيابية المقبلة لكي يتمكّن من كسر زعماء الطائفة السنيّة بأكملهم، وقد يكون هذا الأمر شبه مستحيل، على ما شدّدت الأوساط، نظراً لصعوبة حصوله بين ليلة وضحاها على نطاق الوطن ككلّ. وإلاّ فإنّ الحريري عندئذ سيقبل التحالف مع الشيطان، على ما يُقال، للحفاظ على مكانته وموقعه بين أبناء طائفته.
غير أنّ الأمور لن تصل الى هذا الحدّ من القطيعة وشدّ الحبال بين الحريري والمملكة، على ما أكّدت الأوساط نفسها، كون أي منهما لا يستغني عن الآخر مهما حصل، وإن غرّد الحريري خارج سربها عندما دعم ترشيح فرنجية، علماً أنّ هذا الدعم لم يكن جدّياً وإلاّ لجرى الإعلان عنه بشكل رسمي. كما أنّ الحريري الذي تقرّب في فترة سابقة من الجنرال عون، واحتفل له بعيد ميلاده في قصر قريطم خلال زيارته له، عاد وبدّل موقفه إرضاء للسعودية الرافضة لهذا النوع من التقارب بين الرجلين والتيّارين.
كذلك ليس من مصلحة السعودية أن تغذّي «العداوة» بين حلفاء الأمس السنّة، نظراً لانعكاس هذا الأمر سلباً على الطائفة ككلّ وعلى خيارات أبنائها في صناديق الإقتراع. كما أنّ تجربة ريفي في حال فشلت في طرابلس، فلا شيء سيشجّعهم على انتخابه أو انتخاب الذين يدعمهم في الإنتخابات النيابية المنتظرة. فالمزاج الطرابلسي تبدّل، وهو قابل لإعادة النظر في أقرب فرصة في حال شعر بالغبن، على غرار ما حصل مع المسيحيين والعلويين في الإنتخابات البلدية والإختيارية الأخيرة.
الجميع في فترة الإنتظار، تؤكّد الأوساط الديبلوماسية، فالأنظار تتجه الى الحلّ، ولهذا يتمّ تأجيل انتخاب سوريا، كما الى الإنتخابات الأميركية في تشرين الثاني، ولهذا يتمّ تأجيل إنتخاب الرئيس في لبنان، جلسة تلو الأخرى، فلا أحد يستعجل هذا الاستحقاق، ما دام هذا البلد استطاع تخطّي كلّ المصاعب خلال فترة سنتي الشغور الرئاسي الفائتتين. ولهذا فإنّ انتخاب الرئيس يُمكن أن يُؤجّل بعد الى حين وضوح الصورة الشاملة للمرحلة المقبلة.
ومع تظهير هذه الصورة، قد يُصبح بالإمكان رسم صورة الرئيس الأفضل للبلاد، على ما عقّبت، وربما عندها سحب بعض الترشيحات أو تقدّم البعض الآخر بترشيح نفسه للرئاسة. أمّأ الحلول النصفية فلا تأخذ طريقها الى الموافقة عليها، لا في الداخل ولا في الخارج. فانتخاب رئيس لسنتين، للتوافق على وضع قانون جديد للإنتخاب أو تشكيل حكومة وحدة وطنية ليس الحلّ المثالي، على ما ختمت، ولا يؤيّده مجلس الأمن الدولي رغم حثّه المتكرّر للنوّاب اللبنانيين بضرورة الإسراع في انتخاب رئيس للبلاد لوضع حدّ للشلل الحاصل على صعيد المؤسسات الدستورية.