هذه المرّة ينبغي التفكير جدّياً في أبعاد القرار الأميركي بدعم وحدات كردية من 30 ألف جندي، في شمال سوريا، لحماية الحدود من الجهتين العراقية والتركية. فربما باتت ظروفُ الشرق الأوسط تسمح بصدمات لم يكن أحدٌ قادراً على تحمُّلها قبل الآن.
كان مفاجِئاً أن تقف إدارة الرئيس دونالد ترامب في وجه الاستفتاء الذي أنجزه أكراد العراق، في 25 أيلول الفائت وجاء بنتائج ساحقة لمصلحة الانفصال عن العراق (نحو 93%). في ذلك الحين، انحنى الأميركيون لعاصفة الضغوط العسكرية والاقتصادية التي مارستها حكومة بغداد على الإقليم، ولاعتراضات الثلاثي موسكو- أنقرة – طهران. فأوعزوا إلى حلفائهم الأكراد بالتراجع.
يومذاك، أعلن وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أنّ الاستفتاء يفتقر إلى الشرعية وأنه أحادي الجانب وأنّ واشنطن تريد العراق موحَّداً. لكنه في الموازاة طالب بأن يكون بلداً إتّحادياً وديموقراطياً وحرّاً. وانتاب الأكراد شعورٌ بأنّ حليفَهم الأول، الولايات المتحدة، ضحّى بهم في سبيل مصالحه مع القوى المعنيّة، ولا سيما منها المشارَِكة في ضرب «داعش».
سبقت النكسة الكردية في العراق، أيام ترامب، نكسةٌ كردية في سوريا أيام سلفه باراك أوباما. ففي ربيع 2016، أعلن أكراد سوريا منطقة حكم ذاتي. وفي الصيف التالي، ردّ الأتراك بعملية «درع الفرات» في الشمال السوري، تحت عنوان «تصفية «داعش».
لم يكن هاجسُ أنقرة الأساسي من العملية ضرب «داعش»، بمقدار ما كان تعطيل المسعى الكردي إلى إقامة كيان على الحدود. وقد حظيت العملية التركية بغطاء أوباما الذي استقال من أزمات المنطقة. واعتبر الأكراد يومذاك أنهم تلقّوا ضربة من الحليف الأميركي الذي باعهم لأنقرة، مقابل «داعش».
حظيَ الأتراك أيضاً بدعم روسي وإيراني. واستثمر الرئيس فلاديمير بوتين انسحابَ الولايات المتحدة لفرض حضوره في سوريا. ونجح في إجراء مقايضة مع أنقرة تقوم على الآتي: يبقى نظام الأسد ممسِكاً بسوريا إلى ما بعد الحلّ السياسي، منعاً للتقسيم. وفي المقابل، تتكفّل تركيا بمنع نشوء كيان كردي يهدّد وحدة أراضيها، كما وحدة أراضي إيران.
بالنسبة إلى موسكو، الأفضل هو استمرار الأنظمة الحالية الضامنة لوحدة الكيانات. فالروس يعيشون هواجس نشوء كيانات عرقية وإسلامية، سرعان ما ستهدِّد استقرارَ الاتّحاد الروسي الشديد التنوّع عرقياً ودينياً.
في صيف 2016، عمل الروس على الخط السعودي أيضاً، فأقنعوا القيادة السعودية بأنّ تدخّلَهم في سوريا يهدف إلى ضمان وحدتها، لأنّ تقسيمَ أيِّ كيان عربي سيقود إلى تقسيم سائر الكيانات، نظراً إلى الترابط الجغرافي والسياسي والطائفي والاجتماعي. ولذلك، أعاد السعوديون حساباتهم في التعاطي مع التنظيمات الكثيرة التي تشكّل ما يُسمّى «المعارضة السورية» وطريقة دعمها.
نجح الروس في تثبيت نفوذهم في سوريا، بموافقة دولية وإقليمية شاملة. وفي تلك المرحلة، كان الهدف الدولي الأبرز هو ضرب «داعش» التي كانت تسيطر على أجزاء واسعة من سوريا والعراق. وأما اليوم فالمعادلة تغيَّرت ميدانياً، في البلدين، ونشأت معطيات استراتيجية جديدة:
1- الحرب العسكرية انتهت في سوريا، وانتهت «داعش» في العراق، والحوار السياسي مفتوح حول مستقبل سوريا، برعاية دولية، ولكن في غياب الأكراد.
2- يريد ترامب العودة إلى الشرق الأوسط وتعويض ما خلَّفته «استقالة» أوباما من تمدّد للنفوذ الروسي.
3- يعمل ترامب للحدّ من التمدّد الإيراني في كيانات الشرق الأوسط، ولا سيما منها العراق وسوريا ولبنان، ما يعطّل وصولَ إيران إلى المتوسط. وهو يرغب في إعادة النظر في الاتفاق النووي.
4- باتت السعودية شديدة الالتصاق بواشنطن، مع تولّي الامير محمد بن سلمان منصبَ وليّ العهد.
5- هناك استعدادات أميركية لدعم مسار جديد من المفاوضات حول الملف الفلسطيني ينطلق من معايير القدس عاصمة لإسرائيل والنظرة الإسرائيلية إلى حقّ العودة والدولة الفلسطينية على جزء من سيناء. ولمصر دورٌ في تحضير الواقع الفلسطيني ليلائم الترتيبات اللازمة.
وهنا، تُطرح أسئلة عن السياق الذي جرت فيه الهجمات «الغامضة» على قاعدة حميميم الروسية قبل أيام، والتي أوقعت أضراراً في مقاتلات روسية. وثمّة مَن يتحدث عن احتمال كونها قد حظيت بتغطية أو غضّ نظر أميركي.
فهل أرادت واشنطن أن تبعث برسالة إلى موسكو مفادها أنّ الشمال السوري ليس في المطلق منطقة نفوذ روسية، وأن على موسكو أن تلتزم حدودها في سوريا: فقط دعم الأسد لئلّا يسقط، والحفاظ على توازن استراتيجي لطالما كان قائماً منذ أيام الحرب الباردة، من خلال القواعد العسكرية في المياه الدافئة؟
قد تكون هذه التساؤلات في محلّها، ولكن يجدر انتظار التطورات التي ستحملها الأسابيع المقبلة.
وإذا كانت إدارة ترامب مُصرّة فعلاً على تثبيت كيان للأكراد، أو كانتون، في شمال سوريا، فسيعني ذلك أنّ هذا الكيان هو الركيزة الأولى في «بازل» سوريا السياسية، التي ستولد على طاولة المفاوضات. وفي أيِّ حال، ستفقد طهران سيطرتَها على كل سوريا، وسيكون وجود الأكراد على هذه الطاولة حتمياً.
وإذا ارتسمت سوريا السياسية، على أسسٍ اتّحادية، فلا يمكن أن يأتي العراق الجديد مختلفاً عنها. وعلى الأرجح، كل جيران سوريا والعراق، من المتوسط إلى الخليج، العرب والأتراك والإيرانيون، سيتأثرون بـ«دومينو» التغيير. ويعني ذلك أنّ هناك فصولاً أخرى من المسرحية، طويلة ودراماتيكية، ستكون على الطريق.
وفي خضمّ هذه التحوُّلات، قد يكون الظرف مؤاتياً لإنجاز خطواتٍ أساسية تسعى إسرائيل إلى تنفيذها في الملف الفلسطيني. واهتزاز الكيانات الشرق أوسطية، بشعوبها، ملائم كخشبة للمسرح.