بينما كان سبعٌ وعشرون رئيسَ دولةٍ أوروبيّةٍ يجتمعون في بروكسل في 22 حزيران الجاري، للبحثِ في مستقبلِ شعوبِهم ويتصرَّفون كأنّهم رؤساءُ دولةٍ واحدة، كانت عشرُ شخصيّاتٍ لبنانيّةٍ تَنتمي مبدئيّاً إلى دولةٍ واحدةٍ تجتمعُ، في نفس اليومِ والساعة، في قصرِ بعبدا للبحثِ في حِصصِ طوائفِها ومناطقِها وتتصرَّفُ كأنّها تُمثِّلُ عشرَ دولٍ مختلِفة.
منذ أنْ تأسّس لبنانُ الكبير واللبنانيّون يَسمَعون عبارة: «العملُ على بناءِ دولة». كلّما انتُخب رئيسُ جمهوريّةٍ يُرصِّع خِطابَ قسمِه بها، وكلّما تألّفت حكومةٌ تتوّجُ بيانَها الوزاريّ بها، وكلّما انتُخِب مجلسٌ نيابيّ جديدٌ يَفتتح دورتَه النيابيّة الأولى بها، وكلّما نَشأت جَبهةٌ سياسيّة تطالِب بها.
أيَعني تَكرارُ المطالبةِ بالدولةِ أنّها لم تُبنَ بعد، وقد مَضى على انطلاقِها نحوَ مئةِ عام، أم انّها موجودةٌ فعلاً وغيرُ معترَفٍ بها، أم انّها سقطَت مرّاتٍ ويُعاد ترميمُها؟ أم انَّ العملَ جارٍ لبناءِ دولةٍ لبنانيّةٍ أخرى تَستَنسِخُ محيطَها؟ إن لم تَكن الدولةُ قد قامت، فباطلٌ إيمانُنا بلبنانَ ونكونُ شهودَ زورٍ على وِحدتِنا.
في كلِّ الأحوال هناك إشكاليّةٌ حولَ الدولةِ اللبنانيّةِ وجوداً ونظاماً ودوراً وحَيِّزَ تأثير.
وآخِرُ تعبيرٍ عن هذه الإشكاليّةِ لقاءُ بعبدا حيثُ استعانت الدولةُ بـ«اللا دولة». الدولةُ اللبنانيّةُ، كسلطةٍ حصريّةٍ ومرجِعيّةٍ عليا، مشروعٌ مَضى. أَهمَلناهُ حيناً وأنْكَرناه أحياناً، وتبادَلْنا سَحبَ الاعترافِ به.
وإذا كان اللبنانيّون لم يتمكّنوا طَوالَ قرنٍ من بناءِ دولةٍ مستقرَّةٍ يُقِرّون بها ويحترمونَها، فيعني أنّ العطلَ بُنيويٌّ؛ بالمَوادِّ الأساسيّةِ المستعمَلة، ولا بد بالتالي، من استخلاصِ العِبرِ الدستوريّةِ والميثاقيّة.
لبنان اليوم هو الناس يتحرّكون ذاتيّاً. يعيشون ويعمَلون ويفرَحون ويتألمّون بشكلٍ مستقلٍ عن الدولة؛ فهذه لم تَعُد قوّةَ ردعٍ، ولا قدرةَ حثٍّ، ولا قدوةَ احتضان. منذ تآكُلِها، صار الناسُ يتّجهون إلى الدولةِ بأقلِّ قدرٍ ممكن، وهي تلبّيهِم بالحدِّ الأدنى. هناك غُربةٌ متبادَلة. هَجرٌ من دونِ طلاق.
نظرةُ المواطنين إلى الدولةِ سلبيّةٌ لأنّها كانت غائبةً حين احتاجوا إليها. وعَتبُ الدولةِ على مواطنيها كبيرٌ لأنّهم لم يطوِّروها رغم كلِّ المؤسساتِ الحديثةِ التي وضَعتها بتصرُّفِهم، لا بل أدّت عمليةُ انتقالِ الأسهمِ في مجلسِ إدارتِها إلى فقدانِ الأكثريّةِ والأقليّة لمصلحةِ الأحاديّة. الذي استفاد من سوءِ العَلاقة بين الدولةِ والمواطِن هم السياسيّون الّذين فَرّقوا بين الدولةِ والناسِ وسيطروا على الاثنين.
رغمَ كلِّ الأزَمات، اعتاد اللبنانيّون الحياةَ معاً بموازاةِ اختلافِهم على الدولة، اي دونَ الاتفاقِ على بنيانٍ دستوريٍّ نهائيّ. فلا دستورُ دولةِ الاستقلالِ سنةَ 1943 ثَبُت، ولا دستورُ الطائفِ سنةَ 1989 صَمَد. يَجِد اللبنانيّون صعوبةً في بناء «الدولةِ المرجِعيّة» ويَكتفون بـ«الدولةِ الظِلِّ» بانتظارِ انحسارِ «دولة الولاءات». وغالِبيّةُ هذه الولاءات هي لدولٍ دينيّةٍ مذهبيّةٍ. المشاريعُ المذهبيّةُ خَسَفت المشروعَ اللبنانيّ المدنيّ.
لا يزال اللبنانيّون في مفاوضاتِهم الوطنيّةِ في مرحلةِ «إعلانِ النيّات» ولم يَبلُغوا بعدُ مرحلةَ «العَقدِ المبرَم». من خلالِ هذا الفاصلِ / الثَغرة، تَتسرّبُ إلينا كلُّ الأزَماتِ والحروبِ وتُعيدُنا إلى ما قبلَ مرحلةِ «إعلانِ النيّات»، إلى المؤتمرِ التأسيسيّ.
حين احتَضنَ المتحضِّرون من كلِّ الطوائف الدولةَ لضمانِ استقلالِها وخصوصيَّتِها مَنحَوها، رغم الكوتا الطائفيّةِ والأرجحيّةِ المسيحيّة، قُوّةَ العَقْدِ وهويّةً وطنيّة ووجهاً مدنيّاً ومؤسّساتٍ متقدِّمةً ومرتبةً بين الأمم. يومَها كان لبنانُ منارةً ورسالة.
لا قبلَه ولا بعدَه. لكنَّ البعضَ انقلَب عليها وراهن على غيرِها. ولمّا صارت الدولةُ بإدارةٍ مشترَكة، حصل إشراكٌ بإدارتِها وأَجَّر كلُّ فريقٍ حِصّتَه فيها لأولياءِ أمرٍ خارجيّين. أين نحن اليومَ من الدولةِ السابقة ورُقيِّها وديمقراطيّتِها؟ كان لبنان قُبْلَةً صار قبيلة.
تاريخياً، لم يَنتشر مفهومُ الدولةِ الديمقراطيّةِ في العالم إلا مع تراجعِ تدّخل السلطاتِ الدينيّةِ في يوميّاتِ دولِ أوروبا وبروزِ عصرِ الأنوار (القرنُ الثامنِ عشَر). الدولةُ تنمو حين تتوافَر لها أربعةُ عناصر أساسيّة: الحياةُ السياسيّة، الضمانةُ القضائيّة، الحمايةُ الأمنيّة، والمشروعُ التاريخيّ.
أين نحن منها في لبنان؟ حياتُنا السياسيّة رمزُ الانحِطاط، قضاؤنا ليس موازياً للعدالة، أمنُنا اعتباطيّ بحكمِ السلاح غيرِ الشرعيّ، ومشروعُنا التاريخيُّ حنينٌ حَجبَتهُ الديمغرافيا والشهواتُ المذهبيّة.
صورةُ الدولةِ عند اللبنانيّين اتَّخذَت أشكالاً شتّى: الدولةُ المزدهِرةُ مركزيّاً والناميةُ لامركزيّاً (بين الأربعيناتِ والسبعينات)، الدولةُ التي سَقطت مؤسّساتُها واستمرّت شرعيّتُها (بين السبعينات والتسعينات)، الدولةُ التي استعادت مؤسّساتِها وفَقدَت شرعيّتَها (أثناءَ الاحتلالِ السوريّ)، الدولةُ التي ربِحَت التوازنَ الطائفيَّ وخَسِرت التوازنَ الديمقراطيّ (دولةُ الطائف). وفي كلِّ المراحل ظلّت دولةً لا تحمي شعبَها في المُلِمّات: سنوات 1958، 1969، 1975، 1982، 1990، 2006.
وبموازاةِ هذه التحوّلات العجيبة، بَرزت نزاعاتٌ متعاقِبةٌ، وأحياناً متزامِنةٌ، بين الدولةِ اللبنانيّةِ والدولِ الخارجيّة (سنواتُ الانتدابِ والاستقلالِ)، فتنافُسٌ بين الدولةِ والدويلاتِ الداخليّة (سنواتُ الحروب)، ثم انفصامٌ بين الدولةِ وذاتِها (سنواتُ الطائف).
السؤالُ الشرعيُّ الآن: هل ما يَجري هو مرحلةٌ إجباريّةٌ في مسيرةِ الشعوبِ قبلَ الاستقرارِ النهائيّ، أم انّه تعبيرٌ عن فشلِ تجربةٍ وطنيّةٍ بخصوصيّتِها الميثاقيّة ونظامِها الديمقراطيّ؟ حين أفكّر في لبنانَ واللبنانيّين أتفاءل، وحين أفكِّر في السياسيّين أتشاءم، وحين أفكِّر في المِنطقةِ أخشى العَدوى.
أيّهما ينتصرُ: مشروعُ لبنانَ التاريخيُّ؟ أم مشروعُ الشرقِ الأوسطِ الجديد؟ أحلامُ الناسِ؟ أم مصالحُ السياسيّين؟ الجوابُ يَستحقُّ لقاءً في بعبدا يَضمُّ أكثرَ من عشرةِ أشخاصٍ ويدوم أكثرَ من ثلاثِ ساعات.