كنتُ قد اتّخذت قراراً أن لا أكتب في السياسة وأن أحصر مقالاتي في مجالي المفضّل، أي الاقتصاد، وخصوصاً بعدما قلّت الكتابات الاقتصادية إلى درجة أنّها تحوّلت ترَفاً فكرياً لا أكثر ولا أقلّ، إلّا أنّ التطوّرات في المنطقة دفعتني مجدّداً إلى الكتابة في الشأن السياسي، إذ نشهد اليوم تأزّماً لا مثيلَ له في لبنان والمنطقة.
مَن يراقب الأحداث المتسارعة في المنطقة يستنج أنّ كلّ شيء يسير في طريق مخطّط مرسوم وواضح، وهنا لا أريد توزيع الاتهامات، إلّا أنّه لم يعُد يجدي البقاء في خانة التفرّج وعدم تحليل الأمور في سياقها الحقيقي.
من الواضح أن لا نيّة حقيقية اليوم في القضاء على «داعش»، وما الشعارات والحملات التي أطلقَتها الدول الغربية إلّا إنقاذٌ لماء الوجه أمام الرأي العام في بلدانهم، بعدما وصلت فظائع «داعش» التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي الى حدود اللامعقول. فهل من الصعوبة اليوم قطعُ طرُق الإمدادات على «داعش» أو الآبار التي تستفيد منها، أو حتى هل من الصعب رصد مصادر التمويل وقطعُها؟
حين اتُّخِذ القرار بإسقاط صدّام حسين ومعمّر القذافي، كان التنفيذ سريعاً وحاسماً كالسيف، أمّا اليوم فالإنجازات التي تحقّقت في محاربة «داعش» تحتاج إلى تحليل، لأنّها غير مقنِعة.
يبدو أنّ النيّة غير صادقة، والمعركة التي أعلنَتها القوى الغربية تبدو كأنّها مهرجان خطابي لا أكثر ولا أقلّ لابتزاز المال العربي، وتحضيراً للشرق الأوسط الجديد بموافقة دولية وإقليمية، وإطلاق اليد الغربية لفِعل ما يحلو لها على صعيد المنطقة. والأسوأ هو الازدواجية الظاهرة لدى بعض الدول حين يتمّ الإعلان عن محاربة «داعش» علناً، والاستمرار في دعمِها سرّاً.
يسأل روبرت فيسك في مقال له صدرَ الأسبوع الماضي، مَن يربح الحرب في المعركة بين «داعش» والولايات المتحدة الاميركية، ويجيب إنّهم صانعو الأسلحة في أميركا. فالشهر الماضي بلغَت كلفة صواريخ التوماهوك نحو 65 مليون دولار اميركي، وقد ارتفعت أسهم شركات مثل لوكهيد مارتين، بشكل جنوني، وRaytheon الشركة الاسرائيلية، نعم الشركة الإسرائيلية تستفيد مباشرةً من الحرب على «داعش» لتحقيق أرباح خيالية، فيما لا نزال نُحلّل التفسيرات إذا كانت عملية رجم النساء شرعيّة أم لا؟
ويقول الكاتب مايكل كوكبرون في تحليله لأسباب فشل الضربة الأميركية تحديداً في حماية كوباني (رويترز)، يقول إنّ الضربة العسكرية وحدَها لن تكفي في ظلّ معادلة أساسية، وهي أنّ حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة مثل تركيا والسعودية وقطر، الأردن والبحرين لا يعتبرون التخلّص من «داعش» من أولويات أجندتِهم.
وبالتالي، تبدو الولايات المتحدة اليوم كالزوج المخدوع، لجهة استعمال التحالف ضدّ «داعش» مظلّة لتحرص إسرائيل على استمرار الانقسامات والحروب في المنطقة، ما يضمن أمنَها المباشر من جهة ورفع أرباحها المباشرة من جهة أخرى، وأيضاً لعدم جدّية حلفائها من الدول العربية لاستئصال هذه الظاهرة لأسباب استراتيجية.
ويستغرب العديد من الكتّاب الغربيّين تصرّف إسرائيل في مواجهة «داعش» واللامبالاة التي تبديها للموضوع، فهي لا تشعر بتهديد من امتلاك مجموعة متطرّفة لأسلحة على حدودها، وغير معنية بالحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة على الدولة الإسلامية. وكأنّها تعيش اليوم سكينة غير مسبوقة، وتضحك في سرّها، إذ إنّ أقصى ما كانت تحلم به على صعيد المنطقة قد تحقّق.
أمّا الأسوأ، فهو أنّ تمدّد ظاهرة «داعش» يؤدّي إلى تشويه صورة الإسلام وتصوير إسرائيل كأنّها الدولة الديموقراطية المحاطة بدوَل متطرّفة وبفكر تكفيري، ما يسمح لها بالاستمرار في سياستها الاستيطانية. إنّ الدين الإسلامي يمرّ في أسوأ مرحلة من تاريخه، فزالت صوَر دين التسامح لتحلّ محلها صور مشوّهة لا علاقة لها بالدين الإسلامي.
ويتمّ ذلك في ظلّ غياب صارخ لأيّ محاولات مضادة لتحسين هذه الصورة. فصمتُ الدوَل الإسلامية يؤدّي إلى نتائج سلبية، وتثبيت صورة نمطية عن الإسلام في هذه المرحلة هو هدر دم مباشر لكلّ الدول العربية، نحو مزيد من هدر السيادة والتقسيم.
في الستينيات من القرن الماضي، زار صحافي هندي شهير اسمُه كارانجيا إسرائيل وأجرى حديثاً مطوّلاً مع موشي دايان وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، وشرحَ دايان للصحافي الهندي أنّ إسرائيل ستدمّر الطائرات العربية في مرابضها بضربةٍ سريعة ثمّ تصبح السماء مُلكاً لها وتحسم الحرب لصالحها.
وحينها تساءلَ كارانجيا باستغراب: كيف تكشفون خططكم بهذه الطريقة؟ فردّ عليه دايان ببرودة:
«لا عليك فالعرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يطبّقون»، وتمّ إثبات نظرية دايان عن العرب خلال حرب الـ67 وما زالت النظرية صحيحة حتى يومنا هذا.
يجب التنبّه إلى كلّ ما يُحاك اليوم والتوحّد ضد هذه الخطط المشبوهة، المطلوب توعية شاملة وعامة تُطاوِل الجميع، يجب أن نتعلّم التخطيط والتحليل والقراءة. القراءة جيّداً في التاريخ وفي الحاضر وفي ما سيحمله المستقبل إنْ استمرّت الأمور على ما هي عليه. لم يعُد من المقبول الانجرار الأعمى نحو الفِتن، لنتحوّل وقوداً لحروب تعود بالكَسب المادي للدوَل الغربية.
نحتاج إلى ثورة تعليمية جديدة، ثورةٍ تعطي شعبَنا فرصةً للحياة، التعليم الوطني والقومي الحقيقي الذي يخلق مواطنين لا أتباع طوائف ومذاهب. وإذا احتجنا إلى أمثلةٍ على ذلك فلنتطلّع الى سنغافورة، فالهندي البوذي والماليزي المسلم والصيني المؤمن وغير المؤمن يعيشون على هذه الجزيرة الصغيرة قصّة نجاح مميّزة.
نحتاج الى مواطنين يدركون أنّ وحدتهم هي خلاصهم وأنّ سيادتهم تكون بالإبداع والإنتاج لا بقتال الآخر. نحتاج الى جيل يقرأ ويُحلّل ويبدع، نحتاج الى جيل يدحض مقولة موشي دايان.