Site icon IMLebanon

«إذا لم تستحِ.. فاصنع ما شئت..»  

كانت كلفة البقاء على قيد الحياة بالنسبة لأي لبناني كبيرة وكبيرة جداً.. وإنّنا في كلّ مرة نمتلك القدرة على الصدق مع أنفسنا ندرك فيها حجم الحطام في داخلنا ونكتشف بأنّ ما كنّا نعتقد بأنّنا خبأناه هو في الحقيقة اننا قد دفناه في أعماقنا.. وأنّ سنين الحرب الطويلة جعلت من الموت الحقيقة الوحيدة.. لأنّ غاية الحرب هي القتل ولا فرق فيها بين من قُتِلوا ومن لم يُقْتَلوا لأنّ القتل هو الممكن الوحيد في مجتمع الحرب.. ولمّا كانت غاية الوجود في الحياة الطبيعية هي الحياة الأفضل فإنّ في الحروب يكون البقاء على قيد الحياة وكيفما كان هو الغاية المثلى..

أحدث ذلك عندنا إنهزام لإرادة الخلق والتجديد والإبتكار والإبداع وتظهير المهارات والتأمل في الأسئلة والإجابات واستسلمنا لغريزة البقاء.. وبذلك نكون قد تنازلنا عن العقل أولا ً وعن المشاعر ثانياً.. فالحروب هي هيمنة شريعة الغابة على قيم المدينة.. حيث يسقط الإنتظام وتزدهر الفواجع والمفاجآت.. ويجب أن نعترف بأنّنا فقدنا الكثير من إنسانيتنا لعقود طويلة.. وأن جمهوريتنا لا تزال تقف على حافة الحرب والسلام..

علينا الإعتراف بالعار الذي لحق بإنسانيتنا عقوداً طوال.. وقد يكون ذلك ضرورياً بسبب استمرارنا على هذا القدر العالي من الوهم والادعاء.. وأعتقد أنّ كلّ من عاش تلك السنوات الطوال لديه في حطام ذاكرته الكثير الكثير من الشواهد والأحداث والأماكن والأشخاص.. الكبار قبل الصغار.. حول كيف أنّ الجميع أُذِلّ وأُهين وسقط وتلّوث وارتكب وخضع للأقوى وعلى رؤوس الأشهاد.. فالمسرح كان مكشوفاً وكنّا كلّنا عاجزين.. ممثلين ومشاهدين.. لذلك بقينا جميعاً صامتين لا نتحدث عن تلك السنين لأنّنا كنا جميعاً مذنبين.. وتلك هي المأساة..

علينا أن نتحسس وجودنا بدقة وأن نتفقد بعناية كلّ ما فقدناه من خصائصنا الإنسانية.. وأن نستدرك مستقبل الأجيال الجديدة كي لا نجعل من تشوهاتنا الإنسانية ثقافة مجتمعية.. وكي لا تبقى الغابة في المدينة.. والحرب هي القاعدة.. والسلم هو الاستثناء.. علينا أن نعترف أنّ بقاءنا على قيد الحياة كان ثمنه الحياة نفسها..

كلّ الأغنياء كانوا فقراء.. وكلّ الفقراء كانوا أغنياء.. وكلّنا يعرف كلّنا صعودا ً وهبوطاً..  وقد هبطنا وصعدنا مرات ومرات.. حتى لم يعد أحد يعرف إن كان في حالة صعود ام هبوط.. لأنّ هناك من يتحكّم بمصير الجميع وبدون استثناء.. ويعرف أمراضنا جيداً ويعرف مدى تعلّقنا بالاوهام والمسكنات..  لأنّ أفكارنا هي نتاج أشخاصنا المهزومة والتي أقصى طموحها أن تبقى على قيد الحياة فقط.. مما يجعل من تلك الأفكار فاقدة لأسباب الحياة إن لم تكن هي السبب في ضياعنا ودمارنا..

لا نستطيع أن نحدّد مساحات اجتماعنا الإنساني في إطار الكيان اللبناني الحاضر الغائب على الدوام أي الوطن لبنان.. لأنّ ما تبقى لدينا من وعي فردي وجماعي لا يخضع إلى معايير منطقية أو علمية أو أخلاقية وتلك بديهيات لدى المجتمعات الحربية أو المعسكرة.. وإنّ محاولات بعض من تبقى لديهم شيء من العقل المدني لا تتعدى تأكيد التمايز الفردي.. إما بتسخيف الأمور أو بتعظيمها أو التّنكّر لها.. وفي كلّ الأحوال فإنّ السّلبية هي المشترك الوحيد فيما بينهم مجتمعين .. وإنّ العدمية قد تكون هي الميزة الوحيدة للنّخبة أو ما شابه..

إعتقدنا لسنوات أنّنا قد تجاوزنا المحنة وأعدنا الوحدة والإعمار والتحرير والديموقراطية والانتخابات والرؤساء والوزراء والنواب والقادة الأمنيين وكبار الإعلاميين..  نعم إلى حدّ بعيد كلّ الهياكل أصبحت قائمة وكذلك المؤسسات.. إلاّ أنّها  ليست على قيد الحياة ولا نشعر بوجودها.. والأخطر هو أنّنا بتنا لا نشعر بضرورتها.. ولا بشخوصها أو وظائفها.. فالأدوار مضطربة غير محدّدة المعنى كالرئيس أو الوزير أو النائب أو.. أو.. أو.. فكلّها فاقدة لمعنى الوظيفة المدرجة في الكتاب.. وأيضاً المعاني غير واضحة الدلالات..  والإشكالات كبيرة بين قيم المدينة أي الثواب والعقاب.. وبين شريعة الغاب كما هو حالنا الآن.. إذ يصحّ في معظمنا حديث رسول الله.. عليه الصلاة والسّلام.. وفي يوم مولده الشّريف.. « إذا لم تستحِ.. فاصنع ما شئت..» صدق رسول الله..