فيما يحتدم السباق بين التأليف والانهيار الاقتصادي، عادت الاتصالات والمشاورات بوتيرة سريعة لقطع الطريق على بعض الأطراف التي تحاول تعميق الهوّة بين العهد والرئاسة الثالثة، واختلاق هرطقات للضغط على الرئيس الحريري وللتشويش على التنسيق القائم مع الرئيس عون، بدءاً من الحديث عن مهل للتأليف وصولاً إلى التلويح ببدائل لتولي رئاسة الحكومة، مروراً باختلاق بدعة عزل الرئيس الحريري في حال عجز عن التأليف بسرعة! إلا أن ما فات هذه الأطراف أن حلفاءها هم المعطلون وأن فريقها السياسي استمر بالمناورة عند تولي الرئيس تمّام سلام تشكيل الحكومة لما يقارب الأحد عشر شهراً، من دون أن يتذمر أي منهم حول طول المدة أو التمادي بالتعطيل الذي شل البلد لمدة طويلة.
إن افتعال التشنجات للضغط على فريق دون غيره حتى يتم التشكيل على حسابه لم يعد وارداً، ولن تكون مسؤولية إنقاذ البلاد ملقاة على عاتق فئة دون غيرها، وما صرّح به الرئيس عون بالأمس أمام زواره أن النهوض الاقتصادي لا يحتاج شعباً يائساً يضع إصبعه على الجرح حيث الشعب اللبناني بلغ حداً من اليأس من أداء هذه الطبقة السياسية وأولوياتها مما ينعكس سلباً على الحركة الاقتصادية بدءاً من غياب استثمارات وسياسات التنمية إلى قطاعات تحوّلت من منتجة إلى عاجزة.
أما الهندسات المالية وحدها لم تعد تكفي إذا لم تتوفر البيئة السياسية والأمنية الملائمة لتشجيع المصارف على إقراض المستثمرين المحليين بفوائد محفزة ودفع رؤوس الأموال للخروج من الركود في الحسابات المصرفية ذات الفوائد المرتفعة نحو مشاريع إنتاجية تحرّك العجلة الاقتصادية وتخلق فرص عمل وتساعد على مكافحة البطالة المتزايدة ورفع النمو الاقتصادي لدعم خزينة الدولة بروافد مالية تخفض من عجز مديونية الدولة!
يبقى التحدّي الأكبر أمام العهد بالإيفاء بوعوده من إصلاح بات أكثر من ملحّ وإعادة الجمهورية إلى استقلاليتها في بيئة تحتضن الأجندات الخارجية وتقوّض محاولات النأي بالنفس… أما التحدّي الأصعب فهو مكافحة آفة الفساد التي باتت تنخر مختلف مرافق الدولة وتعبث بصورتها تجاه المجتمع الدولي، حيث كان ملف التجنيس آخر فصولها، مما أنذر بفتح باب استقرار الجمهورية أمام رياح من يدفع أكثر وخضوع أمن البلاد للمحسوبيات والصفقات بالدرجة الأولى… إن الأعباء كثيرة والصعوبات باتت أكثر تعقيداً، ولن يتم التغلب عليها ما لم تتخلَ سائر الأطراف عن محاولات فرض الهيمنة والاستئثار بالقرارات وتتكاتف الجهود للخروج من المأزق الاقتصادي والاجتماعي الخطير.
لقد حلّل المؤرّخ كمال الصليبي أن أساس مشاكل قيام لبنان هو غياب الهوية المشتركة بين أبنائه بطوائفهم وأطيافهم المختلفة، أما اليوم فيمكن إضافة أن أساس ضياع الجمهورية عن طريق النهوض بدولة المؤسسات هو غياب مفهوم الشراكة الحقيقية بين أبناء الوطن الواحد.