إحدى سمات السجال المرافق للصراع في سوريا وعلى سوريا التي لا تزال تثير الدهشة – بكل بساطة – هي غياب أي تناول أو بحث جدي في المسألة الطائفية سوى بعض الأدبيات العامة الغامضة بالنسبة للمتابعين بشكلٍ عام وحتما أكثر غموضاً بالنسبة لأطراف الصراع.
هذا، أيا تكن الأسباب، لم يحصل في الأزمات اللبنانية السابقة (المسيحيون) العراقية المستمرة (السُنّة) البحرينية المتفجّرة (الشيعة). ففي كل هذه الأزمات كان تناول الموضوع الطائفي، والأهم البحث عن حلوله، كثيفاً ومباشَراً ومزمناً. بينما في الموضوع السوري، لا سيما بعد انهيار معظم الرقابة الرسمية الداخلية على هذا الموضوع، يستمر الصمت الكسول على صورة العلاقات الفعلية بين الطوائف والمكوِّنات القومية والسياسية لسوريا المستقبل. لا أقصد، ولا أكتفي، هنا بالأدبيات التي راجت حول الديموقراطية الآتية في نصوص وبيانات “المجلس الوطني” ثم خليفته “الإئتلاف الوطني” أو النصوص العامة والتعميمية التي صدرت عن “الإخوان المسلمين” في فترات متباينة.
قد أكون غير منصف في هذه الملاحظة لبعض المساهمات التي صدرت حول الوضوع لا سيما عن مثقفين، لكن الأمر الأكيد هو أن المسألة الطائفية ليست حاضرة في تصريحات الأندية الدولية والعربية المعنية بالشأن السوري ما خلا، طبعاً، بعض الأنشطة البحثية في الغرب. ويساهم في هذا التغييب الفادح ميل المعارضة العلمانية إلى خطاب “مساواتي” شكلي حول النظام السياسي الآتي في سوريا المستقبل “لا يُغني ولا يسمن عن جوع”. ونحن نعرف، كعلمانيين في الحرب الأهلية اللبنانية، وخصوصاً اليساريين، الحرج المشوب بـِ”تجهيل الفاعل” الذي تجد نفسها هذه الأوساط غارقةً فيه حيال المسألة الطائفية حتى لو كان الدم الطائفي يسيل بحوراً في لبنان ما بعد منتصف السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم ويكون البحث الحقيقي في النوادي الدولية هو حول البعد الطائفي كبعد تكويني في الأزمة الداخلية اللبنانية. طبعاً وفي ما يتعلّق بسوريا يجب عدم نسيان الحظر الشامل الذي يفرضه على نفسه، وسابقاً على غيره، النظام الحاكم في التعاطي العلني مع الموضوع الطائفي، وهذا مفهوم.
دعوني أسارع إلى القول أن الأزمة السورية التي بدأت ثورة وتحوّلت بسرعة إلى حرب أهلية “مُأَقْلمة” ومدوّلة لم تُظهِر أن النظام الحاكم يمكن تبسيط وصفه بأنه فقط طائفي بعدما ثبُت، كنظام غلبة كتلة أمنية من لون طائفي معين، أنه يستند إلى قاعدة متعددة الطوائف لا تزال فاعلة جداً. هناك ثلاث ظواهر في هذا المجال: الأولى أن بعض أبرز وجوه النظام هم إلى اليوم شخصيات سنية من درعا وحمص ودمشق وغيرها. الظاهرة الثانية هي أن هذه القاعدة المتعدِّدة الطوائف يساهم وزن حزب البعث التقليدي في تأمينها وترسيخها مثلما ظهر أن هناك في العراق، ورغم كل ما جرى، مسألة حزبية وليس فقط طائفية يجسدها حزب البعث. الظاهرة الثالثة التي لم تُدرَس كفايةً بعد هي الحجم المحدود بل الهزيل للانشقاقات عن الجهاز المدني للدولة السورية. يكاد العدد لا يُذكر إذا استثنينا المناطق التي خرجت كليا عن سيطرة النظام والتي لا تزال تصلها رواتب موظّفيها.
عودة إلى البدء:
أين المسألة العلوية، أي وضع الطائفة العلوية، في البحث السياسي لسوريا الراهنة والأهم المستقبلية، مثلما كان البحث المديد حول الموارنة والمسيحيين في لبنان؟ وهو بحث لم يتوقف في لبنان بعد حوالى ربع قرن على انتهاء الحرب الأهلية المسلحة بين المسيحيين والمسلمين وبعد حوالى عشر سنوات على بدء الحرب الأهلية الباردة بين الطائفيّتين السنّية والشيعيّة! (انتبه أقول: الطائفيّتين لا الطائفتين).
هناك ثلاثة مستويات رئيسية للأزمة السورية لا نعرف اليوم كيف ستتفاعل سلما عندما تنضج مرحلة الحلول بعد عشر أو عشرين عاما؟
المستوى الداخلي وأهم عناصره موقع العلويين ومناطقهم ودورهم في الصيغة السورية الجديدة. مضافاً إليهم المسألة الكردية ولكنها بالنتيجة مسألة طَرَفية إذا كان لهذا الكيان السوري أن يستعيد نفسه، في العلاقات الدولية، ذات يوم. وهذه إحدى مفارقات الحالة الكردية: هي هامشيةٌ سورياً ولكنها شديدة الأهمية المركزية في علاقات المنطقة وفي مربّع خطير فيه هو المربّع التركي الإيراني العراقي السوري. بل لعلها إحدى الأهم.
المستوى الثاني الإقليمي ولا سيما مواقع ومآلات نفوذ إيران والسعودية وتركيا إذا بقيت هذه القوى الكبيرة على ما هي عليه حتى “نهاية” الأزمة السورية. لقد دخل علويّو سوريا نهائيا في “الشيعية السياسية” التي تقودها بصيغتها المعاصرة إيران الخمينية الأصولية. هذه حقيقة من حقائق التبلور الصراعي في المنطقة مقابل التجاذب السعودي التركي على الاستقطاب السني. وإذا كان حجم الانتشار السني الديموغرافي في العالم والمنطقة يفتح على تحولات صراعية داخل “العالم السني” لم تتبلور بعد، فإن سوريا باتت في أساس مستقبل هذا التبلور بمعانيه البنّاءة، أي الانفراجية، أو الهدّامة الداعشية.
المستوى الثالث الدولي، وقد بات أساسيا جدا في ظل التمسّك الروسي الاستراتيجي بـِ”الموقع” السوري المتوسطي، وهو مستقبل التوازن داخل سوريا بين الروس والأميركيّين واستطراداً الأوروبيّين.
أي صيغة إذن لسوريا الطوائف؟ وما موقع العلويين الجديد فيها؟