Site icon IMLebanon

إيلان لم يمت.. اقتحم أوروبا!

كان في وسع السوريين والصوماليين والليبيين أن يستمروا في ولوج المقبرة المائية غرقًا في المتوسط من دون أن يستثيروا العالم، خصوصًا الدول الأوروبية التي ترتعد فرائصها الآن أمام مائة وعشرين ألف لاجئ يفترض أن تستوعبهم خلال عامين، وهو ما كان لبنان الصغير حتى وقت قريب يستوعبه في شهرين!

قبل هؤلاء ابتلعت الأمواج الآلاف من لاجئي القوارب الفيتناميين والكمبوديين، ويبدو أن المتوسط الذي يشكّل هوة عميقة بين الجنوب البائس والشمال السعيد، سيظل يبتلع كثيرين من الذين يغامرون ليقفزوا إلى الضفة الأخرى، إما هربًا من الموت تحت الركام وبراميل الأنظمة المتوحشة، أو بحثًا عن حياة أفضل ولو عبر سلوك طرق الموت المحتمل.

لست أدري لماذا أتذكّر أوغسطينوس الذي قال قبل أكثر من ألف وخمسمائة عام إن «البحار ملأتها دموع الذين سبقونا»، تدليلاً على الحزن البشري المطلق، ذلك أنه حين يمتلئ المتوسط بجثث الجنوبيين الهاربين إلى الشمال، فإن ذلك الهول يؤكد دائمًا استمرار مسيرة الحزن البشري المطلق!

في أي حال، كان في وسع المتوسط أن يواصل ابتلاع التعساء الهاربين من دون ضجيج دولي، خصوصًا في الضفة الأوروبية، لكن ذلك الطفل إيلان الكردي صنع موتًا صاعقًا ومدمرًا، فجّر في كل إنسان الحس العميق بالإثم، فلقد مات مختصرًا مأساة مئات الآلاف؛ رأسه في الماء وجسده على الرمال، ونومه عميق عمق نوم الضمير في أمكنة كثيرة، وصل إلى الضفة ولم يصل، استلقى جثة صاخبة تجاوز دويّها كل براميل النظام السوري القاتلة وصواريخه المدمرة التي هربت منها عائلة إيلان.

مات الطفل إيلان على «فقش الموج»، رأسه في الزبد وجسده الصغير على اليابسة، بدا كمن يدير حذاءه إلينا، ربما ليصنع من موته فصلاً جديدًا في تعامل الدول الأوروبية مع مأساة اللاجئين، خصوصًا في ظل الحديث عن وجود ثلاثين ألفا من المهرّبين سيظل في وسعهم دفن الضحايا في المتوسط أو في المجهول ما دام النظام السوري المدعوم روسيًا وإيرانيًا يلقي بنيرانه على السوريين، الذين يهربون أيضًا من وحشية تنظيم «داعش» الإرهابي، الذي استولدته أصلاً مذابح هذا النظام!

قبل أن يصير المتوسط مقبرة للاجئين، كانت سوريا قد تحوّلت مقبرة للضمير العالمي، تحت الإدارة الأميركية – الروسية للمذبحة المفتوحة على مداها، فلا واشنطن تحركت لوقف تمادي النظام في ذبح السوريين حتى بالسلاح الكيماوي، ولا موسكو حاولت أن تدفع في اتجاه الحل السياسي، لا بل دعمت دائمًا الحل العسكري عبر تعطيل الشرعية الدولية بالفيتو ودعم الأسد بالسلاح، وها هي تدخل الآن مرحلة دعمه بالخبراء العسكريين والمقاتلين من الجيش الأحمر!

ليس خافيًا أنه بعد فشل مؤتمر جنيف بسبب إصرار الروس على إجهاض عملية الانتقال السياسي، التي تشكل مدخلاً ضروريًا وحيدًا للحل، ومع ارتفاع وتيرة المذابح وتقاطر العناصر الإرهابية إلى الساحة السورية، ثم بعد سقوط الموصل وانهيار الجيش العراقي، بدا أن أميركا وروسيا وعددًا من الدول الأوروبية لا تمانع في أن تتحول الساحة السورية وامتداداتها العراقية مصيدة مفتوحة لـ«داعش» والعناصر الإرهابية التي جاءت من الغرب كما من روسيا والشيشان.

كل هذا عمّق مشكلة اللجوء ووسع من أعداد الهاربين الذين دفعهم اليأس من الوضع المقفل والخوف من الموت، إلى الفرار بعيدًا بعدما فاضت دول الجوار مثل لبنان والأردن وتركيا بمئات الآلاف منهم. وفي الواقع إذا كان الموت التراجيدي للطفل الكردي إيلان في مقبرة المتوسط سيفتح صفحة جديدة في سياسية التعامل الأوروبية مع الأزمة السورية، حيث قررت كل من بريطانيا وفرنسا الانخراط في العمليات الجوية ضد «داعش»، فمن الضروري أن نتذكر أن عشرات الآلاف من الأطفال السوريين ماتوا في أعماق ركام منازلهم التي انهارت على رؤوسهم بفعل صواريخ النظام والبراميل المتفجرة، دون أن يحسّ أحد في الدول التي أيقظتها صورة الطفل الكردي ميتًا على وسادة الزبد!

من الواضح أن ما يحصل الآن عبارة عن تضافر الشعور بالإثم الإنساني العميق مع الإحساس بالخوف الداهم من «أسماك البيرانا» البشرية الجائعة التي تندفع في جحافل من الجنوب بما يهدد توازنات اقتصادية واجتماعية في القارة العجوز. وهكذا بدأت الدول الأوروبية الكبرى بعد نقاش وجدال، التجاوب مع المتطلبات التي حددها الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية، لجهة تقاسم أعباء تدفق اللاجئين.

ربما يكون من حق اللبنانيين والأردنيين الذين يعانون من أزمات اقتصادية خانقة، أن يقعوا مغشيًا عليهم عندما يقرأون الأرقام التي تحدد التزامات الدول الأوروبية المقتدرة حيال أزمة اللجوء، ذلك أن بريطانيا تعهّدت باستقبال عشرين ألف لاجئ، كما أعلن ديفيد كاميرون أمام مجلس العموم، بينما تعهّدت فرنسا باستقبال أربعة وعشرين ألفًا. أما ألمانيا رغم حاجتها إلى الأيدي العاملة، ورغم دموع أنجيلا ميركل أمام صور الجثث الطافية على شواطئ المتوسط، فإنها تعهّدت باستقبال أربعة وعشرين ألف لاجئ.

المفوضية الأوروبية غرقت أسبوعين في النقاش حول «مشكلة» توزيع مائة وعشرين ألف لاجئ على دول الاتحاد في السنتين المقبلتين، في حين يصل عدد اللاجئين السوريين في لبنان إلى مليونين تقريبًا؛ أي ما يوازي 42 في المائة من عدد سكانه، أما الأردن فيستضيف أكثر من مليون لاجئ سوري، وفي تركيا ما يقرب من مليون لاجئ.

عندما تعلّق أنجيلا ميركل على أزمة اللجوء بالقول إن «ما نعيشه اليوم سيشغلنا في السنوات المقبلة وسيغيّر بلادنا، ونريد أن يكون التغيير إيجابيًا»، وعندما تكشف عن برنامج يلاحظ رصد دفعتين للسنة المقبلة 2016 حجم كل دفعة ثلاثة مليارات يورو، لاستيعاب اللاجئين، فماذا يستطيع بلد مأزوم سياسيًا واقتصاديًا مثل لبنان أن يقول، وماذا له أن يفعل، خصوصًا عندما تتخلف الدول المانحة عن تقديم ما وعدت به في قمم الكويت الثلاث للدول المانحة، ذلك أنه لم يحصل إلا على 39 في المائة من أصل مبلغ الـ370 مليون دولار الذي تقرر له، ولهذا فقد تدنى المبلغ الذي يحصل عليه كل لاجئ إلى أقل من 14 دولارًا في الشهر؟

الطفل إيلان الكردي لم يفجّر مشكلة للأوروبيين وغيرهم.. كل ذنبه أنه مات بطريقة دقّت مسمارًا في ضمير الغرب وفي عيونه أيضًا، وقبله غرق 300 ألف سوري في دمائهم، لكن المشكلة الأكثر وحشية وألمًا من تدفق اللاجئين السوريين مثلاً، هي استمرار تدفق الدعم الروسي والإيراني للنظام السوري، مما يمنع الحل السياسي ويؤجج مأساة الموت واللجوء!