IMLebanon

المعابر غير المشروعة والرئاسة المارونية

 

يتطلب الإصغاء لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل قدرة فائقة على قمع الذات. فليس من السهل تحمّل هذا الكمّ من الاعتداء السافر على الحقيقة وهذا الاغتصاب للذاكرة يسوقهما سياسي ألقت به الأقدار في الحيّز العام. يمارس الرجل مع كلّ إطلالة إعلامية ودون خجل، كلّ أنواع الاعتداء على المنطق، ليس حين يتنصّل من تبعات الفشل السياسي والاقتصادي الذي لحق بلبنان وكلّ العزلة التي يعيشها فحسب، بل عندما يختلق الإنجازات والانتصارات لنفسه ولفريقه السياسي برغم فساد الحكام والقضاة. أما نرجسيّته القاتلة فتتجلّى عندما يدعو من هاجمه في الإعلام الى الكف عن إرسال الوسطاء لتبريد الأجواء والتقرّب وطلب الحماية من أجل السكوت عن ملف أو إيجاد تسويّة.

 

الظهور الإعلامي الأخير للوزير السابق باسيل لا يعدو كونه زوبعة رئاسية في فنجان ماروني ليس أكثر، وهو لا يتفوّق على أيٍ مناورات كلامية تحاول استعادة التواصل الذي افتقدته مع المواطنين، أو ملء فراغ سياسي يسود «جمهورية مع وقف التنفيذ». فبالتوازي مع  التئام المجلس الأعلى للدفاع للنظر في موضوع التهريب الذي يرهق الاقتصاد اللبناني وإصداره التعليمات للأجهزة الأمنية بالتشدّد في اتّخاذ إجراءات رادعة، كان الأمين العام لحزب الله يرسم التقييدات التي يجب أن تخضع لها عملية ضبط الحدود، وهي التنسيق مع سوريا لاستحالة قدرة الجيش اللبناني منفرداً على القيام بذلك.

 

من المرجّح إنّ إقدام رئيس الجمهورية على طرح مسألة المعابر غير الشرعيّة قد استفز حزب الله، وربما اعتبره الحزب خطوة في الاتّجاه الخاطئ تلاقي ما يُطرح من ضرورة توسيع مهمة قوات الأمم المتّحدة المؤقتة في لبنان بموجب القرار 1701، أو تستعيد المناخ الدولي الداعي لتطبيق القرار 1680 (ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا) أمام وفد صندوق النقد الدولي الموجود في بيروت. أتى الموقف الذي أعلنه الأمين العام لحزب الله بمواجهة الرئيس ميشال عون بما يذكّر بشراكتهما في تفاهم مار مخايل الذي أرادوه نموذجاً يقتدي به كلّ الفرقاء السياسيين، وبما يوازي تحالفهما في محوّر الممانعة الذي آثر تغطية تدخل حزب الله في سوريا برغم تداعيات المواجهة مع الدول العربية.

 

قد تكون أقل التفسيرات سلبية لقرار الأمين العام هي ميله للتحرر من عبء ما تبقّى من تسوية رئاسية أسقطت ثورة 17 تشرين أحد أطرافها، الرئيس سعد الحريري. ولم يعد هناك من طائل للاستمرار في تحمّل تبِعات التشبث بطرفها الآخر الذي أضحى مكلفاً، فهو مصدر استفزاز مجاني لعدد كبير من الحلفاء ومن الخصوم الذين لا يريد حزب الله أن تُفرض عليه مواجهتهم في توقيت لا يريده. إسقاط حضانة حزب الله للتسوية يصبح انسيابياً لانتفاء الحاجة إليها مع طرف لا عمق إقليمي له ولا يمكن «تقريشه» في أي تسوية خارج الحدود.

 

ولكن التفسير الأكثر عمقاً والذي يتجاوز النزاعات اللبنانية الضيّقة وتقاسم السلطة المحليّة هو انتهاء صلاحية الوكيل وإعلان انتقال القيادة إلى مركز الثقل الذي يمثّله حزب الله. صيغة «الأمر لي» التي أعلنها الحزب من بوابة الحدود المشرّعة للتهريب ليست موجّهة الى الداخل اللبناني – الذي أذعنت كلّ مكوّناته لحزب الله وارتضت الانكفاء لترميم بيئاتها الداخلية بعيداً عن طريق بيروت دمشق – بل هي دعوة لفريق صندوق النقد للانسحاب من الحوار مع  حكومة لا قرار لها عاجزة عن الالتزام بأهم الشروط المطلوبة وهي وقف التهرّب الضريبي. كما هي دعوة للمجتمع الدولي، وتحديداً الولايات المتّحدة، للحوار مع من  يملك القرار بالتفاوض وليس مع جمهورية لا تمتلك قرارها، وبمعنى آخر انتقال الحزب للسيطرة المباشرة على الجمهورية دونما حاجة لوسيط مسيحي له تمثيله.

 

حزب الله ماضٍ بالتمسك بالمعابر غير الشرعية، هي جزء من اقتصاده ومن اقتصاد ما تبقّى من النظام السوري الذي تتفجّر بيئته المذهبية تحت أكثر من عنوان، كما يترنح على وقع الأطماع الروسية وضياع طهران بين الضربات الإسرائيلية التي تتلقاها تحت أنظار حليفها الروسي ومنظومات صواريخ S400 والمعارك التي قد تتورط بها في البحر الكاريبي لبيع النفط لفنزويلا. حراجة الموقف الإيراني لا تحتمل الاعتراف أو إفساح المجال لأي فريق، حتى الفريق المسيحي المستسلم لحزب الله، بأي دور.

 

أمام كلّ ذلك ماذا يتبقى من قيمة للعناوين التي تستظلها رئاسة الجمهورية، كالرئيس الأقوى بين المسيحيين أو الأكثر تمثيلاً. لقد فقد العنوان المسيحي صلاحيته مع انغلاق الأفق في سوريا والصراع المحموم على النفوذ وإلزامية تمسّك طهران بكلّ الأوراق. فهل تجرؤ الرئاسة المارونية التي تتحمّل اليوم تبعات التماهي مع حزب الله على الخروج من عباءة حسن نصرالله؟

 

 

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات